رحلـة الشتــاء (ح 11)
الأحد, 06 يناير 2013 08:26

 

الكــهف ـ السجن

 

"طائـر الرمـل ألا تخبرني ** كيف يشقى بالصداح الأدبا؟
أوما يشجيك أن تشهدنا ** والمآسي حولنا والكربــا
لك عش في الأعالي وترى ** كهفنـا المحلولك المكتئبـا"
                                                الخليل النحوي

 

altأكان الشاعر النحوي يحاور حقا، من هذا الكهف ـ السجن، طائر الرمل كما يوهمنا، أم كان يخاطب فيه غيره، ويستحضر - وهو العارف- حوار الأخطل الصغير مع الحاكم، والذي عبّر فيه بـ"هنا" عن القصر و"هناك" عن "المقصور"؟

 

 

"قل للرئيس إذا نظرت نعيمه ** إن يشق شعبك فالنعيم جهنم
الكهرباء هنا تشع شموسـها ** وشعاع أكثرِ مَنْ هناك الأنجم!"


أكان يطرح من جديد معضلة حكام ومحكومي بلاد العالم الثالث السائبة، ويرسم، بلغة الشعر، سعادة الحاكم بشقاء من تسوّل لهم أنفسهم التطاول على قانون الحاكم، في غياب القانون الحاكم؟

* * *

نحت كهفهم من طوب، وترفع سقفه أعمدة من جذوع الطلح عليها حصير من أعواد العشر الذي لا يتسوس ويستخدم لحاؤه مادة بديلة عن الصوف تنسج منها المريدات الزرابي. وفوق حصير العشر نام الطوب الذي شكل مادة السقف. أما مكونات الكهف فهي بهو ضيق يناهز أربعة أمتار في ثلاثة، وغرفة واحدة طولها سبعة أمتار في أقل من ثلاثة ونصف. وللكهف بابان أحدهما مدخل يقع ناحية الجنوب، والثاني يقابله شمالا في خاصرة الغرفة، لكنه ألغي بإحكام الآن احتفاء بمقدم الوافدين الجدد. وهذا الباب من مقتنيات فصل الصيف. وقد صنعت دفتا البابين من أوطأ أنواع القصدير في إطارين من خشب رخيص باهت تثبتهما في الجدار الطوبي أشرطة رقيقة من تلك التي تربط أكياس الشاي غرزت بمسامير في الجدار الطوبي السميك. وقد فرش البهو ببساط قديم مهترئ عليه ثلاث حشايا من الإسفنج 10 سم، اثنتان منها عاريتان دثرتا برداءين جديدين وتلتحف الثالثة رداء قديما. وعلى الحشايا وسائد جديدة. ويبدو أن هذا المدخل أعد سلفا لسكنى الحراس. وقد غرزت في جدرانه قضبان حديد نخرة متعددة الأشكال والأحجام بترت من هياكل سيارات بالية واتخذت مشاجب!

أما جحرهم، الذي تؤدي إليه فتحة من بهو الحراس ـ المدخل، فقد كانت به نويفذتان مساحة كل منهما ذراع في ذراع. لكن الشرقية منهما سدت تماما، في إطار أعمال الصيانة والتأهيل التي تمت قبيل مجيئهم بساعات، بينما بقي ستارها الأسود البالي منكسا في مكانه يغطي آثار جريمة وأدها الحديث! أما الغربية فقد سدوا أربعين سنتمترا منها وبقيت عشرة تشكل - حين يرفع الستار المماثل لصنوه في تلك الموءودة- مصباح البيت ووسيلة الشمس الوحيدة للتطفل عليه! وقد اختلس، ليلة غادروا المكان، هذا الستار وما يزال يحتفظ به تذكارا من الكهف.

طاف بالكهف عنوة فوجد الباب الشمالي الملغى تم سده من خارج، دون نزع الباب، بجدار من الحجارة والطوب علوه متر. وقد تطوع الصانع مشكورا بنقش تاريخ إنجاز "هرمه الرابع" أربع مرات وهو يوم 19/12/1998 أي يوم مجيئهم! كما رأى نويفذة الكوة الشرقية التي سدت بالطوب من داخل ما تزال معلقة في مصراعيها. أما مقتنيات "البيت" فكانت بساطا متواضعا جديدا وثلاث حشايا من الإسفنج 20 سم جديدة مغلفة، وثلاث وسائد وثلاثة أغطية ما تزال في أكياسها (كان غطاؤه لما دنا لاستخدامه نصف دزينة من أغطية الرضع). كان وضع الحشايا على التوالي واحدة في الطرف الشرقي، جنوب شمال، صارت من نصيب الرئيس أحمد، وواحدة في الطرف الشمالي، شرق غرب، كانت من نصيب الأستاذ باباه، وأخرى في الطرف الغربي، جنوب شمال، هي التي أصبحت من نصيبه!

وفي ختام هذه النبذة عن قصرهم الشتوي هذا، لا بد من الحديث عن مرافقه التي هي عبارة عن زريبة منفصلة من الطين يزيد ارتفاعها قليلا على المتر، وتبلغ مساحتها، بالكاد، مترين في مترين، أتقنتها يد مهندس القرية: مقعد إنجليزي من الأسمنت تمثل في موطئ قدمين مرتفع قليلا عن الأرضية يتوسطه غار، وبجانبه أخدود يصرف المياه خارج الزريبة. ولها بويب من الزنك لا يتجاوز طوله مترا لا يقفل من داخل لكن المهندس اقتصد سنتمترات من عرض إطار البويب من فوق فصار الإطار يضيق قليلا على الباب فيلتصق الباب بالإطار على الداخل ولا ينفتح حتى يدفعه بقوة. ومن الخارج تم تثبيت مسمار معقوف على حافة الإطار التي تلي قفلة الباب يديره الخارج قفلا إضافيا حتى لا تعبث العواصف بهذا الصرح المعماري التحفة! وفوق إحدى جنبات الحائط لبنة من طوب تقوم مقام المشجب يضعها المستحم فوق ثيابه حتى لا تخطفها العواصف. وبجنب المقعد البديع علبة تون فارغة جرى فتحها أصلا بسكين ثم ترك جزء من غطائها لاصقا يمسك الغطاء كما يمسك غطاء الإبريق. وتستخدم هذه العلبة الفارغة إناء ماء مع تحقق إصابة مستخدمها بجروح وحتمية إصابته كذلك بداء الكزاز! عندما دخل "الحمام" أول مرة رأى جنب هذا "الإبريق" خنفساء تجرى على غير هدى جيئة وذهابا تبحث عن رزقها. تذكر أن جدته رحمها الله كانت تمسك بتلك الحشرة المسكينة وتدق رأسها على الأرض بعنف حتى يغيب في عنقها، وتعتبر ذلك سنة وواجبا.. لم يعكر صفوها احتراما لخلق الله رغم تعلقه بسنن جدته، بل تركها تتيه - كما يتيه- في هذه الذرة من الملكوت.. أوليسا من طينة واحدة؟

في مثل هذا الكهف القذر في ولاته، تيشيت، وادان، تامشكط، اجريده وغيرها، اعتاد حكامنا أن يلقوا – قادرين- خصومهم بطرا ورياء.. ثم لا يلبثون أن يأتي دورهم! الرئيس المختار بن داداه، الرئيس المصطفى بن محمد السالك، الرئيس محمد خونا ولد هيداله، رئيس الوزراء سيد أحمد بن ابنيجاره...!

 

في الحلقة القادمة: السجّــان

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 10 زوار  على الموقع