| في متاهات حب مفقود: مباريات "ظامه" المشؤومة والطريق المسدود! (قصة قصيرة) |
| الجمعة, 26 يوليو 2019 10:17 |
|
البخاري محمد مؤمل ( اليعقوبي)
ولم يكن يوما يتوقع أن ثمرة خياله - على بساطتها- ستتعرض لقرصنة.. بطلها صديقه وقريبه سالم. خلال سفره الأخير إلى منطقة بيريگني صحبة رفيقيه ولد سيدي احمد - تغمده الله برحمته الواسعة- وعبد الله - أطال الله في عمره- فوجئ حمَّه... لكن دهشته لم تكن عظيمة، ولم تطل إلا قليلا، بعد أن قصَّت عليه ابنة عمه خديجة الحكاية التالية، نقلا عن صديقه المذكور آنفا.. قائلة: - "ذات مرة حدثنا سالم- أنا وجلساء آخرين- فقال: "كنا شبانا ثلاثة أصدقاء: أنا وحمَّه وسيدي، وقد تعودنا على أن نتجول ونمرح على شواطئ انواكشوط أو على المشارف الشرقية للمدينة. في ذلك النهار، الوقت كان في آخر الظهيرة من يوم الأحد.. والجو معتدل: لا حرارة شديدة تضايقنا.. ولا برد ولا رياح يعكران من صفونا أو يعوقان نزهتنا. جلسنا خارج المدينة نتبادل أطراف الحديث على قمة ربوة رملية صغيرة تبعد مائتي متر أو أكثر شمال الطريق المؤدية إلى بوتلميت، في منطقة نظيفة، خالية آنذاك من التلوث ومن ضجيج السكان والبنيان؛ خلافا لما هي عليه اليوم منذ أن أصبحت جزءا كبيرا ومعمورا من مدينة انواكشوط يعرف باسم "مقاطعة توجنين الإدارية". وفي ذلك المكان والجو المريحين، وبعد فترة قصيرة، اقترح علينا سيدي أن نتبارى في لعبة "ظامه" ملاحظا بصورة عابرة أنه "من غير الوارد تشبيهها أو تسميتها بلعبة الداما العالمية" على حد قوله، وطلب بأن يكون ضمن المتنافسيْن الأوليْن؛ في حين رد عليه حمَّه باقتراح مغاير: أن نتسابق في العدْو، وأن يكون ميدان السباق أعلى الكثبان الرملية المجاورة ارتفاعا، مبينا أنه ينبغي أن نتسلقه وننزل منه مرتين متتاليتين ذهابا وإيابا. أما أنا، فإنني تبنَّيت الرأيين معا - وصاحباهما مثلي، بعد ما وَفَّقتُ بينهما- عندما أضفتُ أنه ينبغي أن نبدأ بالعدْو.. وأن الفائزيْن الأوليْن في السباق لهما البدء في لعب "ظامه" على أن يحل الثالث مكان المهزوم.. وكنت أحد العداءين الأوليْن. ثم وزعنا المهمات بيننا، حسب ما تقتضيه متطلبات المباراة الثانية. تكلف سيدي بـ"خط ظامه" (أي رسم مربع كبير نسبيا على التراب. طول ضلعه 50 إلى 40 سم يتوزعه أربعون خطا مستقيما تتقاطع في 81 نقطة. منها خمسة خطوط أفقية وخمسة عمودية و 14 خطا مائلا إضافة إلى 10 خطوط وهمية: أفقية وعمودية) وأُسندت مهمة جمع العيدان الأربعين إلى حمَّه؛ بينما تحملت أنا توفير ما يقابلها من بعر الإبل أو ما يقوم مقامه، مثل المحار.. ولحسن الحظ، عثرت بسرعة لم أكن أتوقعها فعلا على عشر بعرات على بعد بضعة أمتار من موقعنا؛ مما دفعني إلى التخلي عن المحار. وخلال بحثي عن الثلاثين بعرة الباقية، صرت أوسع من دائرة البحث تدريجيا حتى أدى بي المطاف إلى الوقوف على عدد كبير من الأنابيب ذات أقطار كبيرة تتسع لاحتضان رجل جالس؛ قد وضعها الصينيون في صف طويل، واحدا تلو الآخر، في انتظار تركيب بعضها مع بعضٍ وربْطها بالشبكة التي تمد العاصمة بالماء انطلاقا من بحيرة إديني الواقعة على مسافة 50 كم تقريبا شرق انواكشوط. وقد لفت انتباهي وجود أبعار جديدة العهد: لم تجف بعدُ.. وهي متناثرة في مدخل أحد الأنابيب. فأخذتها. غير أنني لاحظت أن بداخل الأنبوب أكثر مما في فتحته. فمددت يدي حتى أبعد ما يمكن.. وجمعت بعضها، مستغربا كيف وصل بعر الإبل إلى هذا المستوى من العمق داخل الأنبوب. دفع بي الفضول إلى إدخال رأسي في الأسطوانة المفتوحة الطرفين وانبطحت. ثم تحركت متقدما ببطء: تارة أحبو على ركبتيَ ويديَ.. وتارة أمشي على بطني منكبا على وجهي، دون أن أدري لماذا أكلف نفسي هذا الجهد المرهِق، ولا إلى أين أسير بالضبط. ولم أفتأ أتساءل وأفكر في الموضوع حتى تناهت إلى مسامعي أصوات استغربتها عند أول وهلة، قبل أن أتبين بعد وقت قصير أنها ليست مألوفة شيئا ما لدي، فحسب؛ بل إنها تحرك وتنعش أشواقي وحنيني إلى مجتمع البدو الرحل الذين ترعرعت وتربيت بينهم؛ إذ تأكدتُ تدريجيا من طبيعة الصوت، أو - على الأصح- الصوتين ونوعهما: حنين حوار ورزيم ناقة أعتقد أنها أمه. وكانت قوة الإشارات الصوتية المتبادلة بين الدابتين تتضح شيئا فشيئا بقدر ما ازحف أو أحبو قُدما داخل الأنبوب، حتى تيقنت من كوني على مسافة قريبة من أم أليفة حنون تداعب صغيرها المدلل. وتوقفت قليلا لما انتابني شعور قوي عندما تذكرت كم أنا مدين لنوق مثلها.. وكم أنا مشتاق لحد السقم. ثم استأنفت زحفي البطيء داخل الأنبوب نحو الجهة التي ينبعث منها الصوت: أبحث عن أم لم أعرفها... وعن حب يرافقني ويلهمني دائما، وأنا أركض خلفه باستمرار وهو يبتعد.. يبتعد.. يبتعد... وقلبي به لصيق..". قاطع حمَّه ابنة عمه، جاعلا حدا نهائيا لكلامها ومؤكدا في نفس الوقت ومصححا على طريقته المهذبة ما نقلته له عن صديقه وقريبه، قائلا: - "أنا سوف أحكي عليك بقية القصة، يا خديجة. ولكن أود أن أؤكد - قبل ذلك- أن سالم راوية ممتاز، وجدير حقا بتبني وسرد ما أقصه عليه، حتى وإن غير اسم احد إبطال القصة. وطالما أن مُبلِّغ قولي يوصله على العموم بالصورة التي سمعت من فمكِ، فالتشبث القوي بالملكية الفكرية والمطالبة باحترامها مهما كلف الثمن... أمران لا يليقان كثيرا بنوعي من أبناء البدو العاملين بما يجري به العرف في أوساط عريضة من نخبنا المتعلمة والسياسية التي تخيم عقلية "السيبة" الفكرية على تعاملها مع القضايا كلها؛ ثقافية كانت أم من سجل آخر. فرغم ما لهذا النوع من التعامل المريب، مع إبداعي أو تأليفي، من إجحاف بي وبمرتكبه أيضا، فلا أرى في هذه الحالة بالذات من سبيل غير الرضوخ للوضع والتسليم به، علما أن سالم تربطني وإياه أواصر قربى متينة. وكما تعلمين، فويل لمن أثار فضيحة داخل عشيرته أوسار في اتجاه معاكس لما تريده وترضاه القبيلة!" |
