رحلـة الشتــاء (ح 13)
الخميس, 17 يناير 2013 11:23

 

المعلومة في بو امديد! من يحاصر من؟

 

altيوم 21/12/1998

لا يزال الحصار الإعلامي متواصلا. رغم مخالفة ذلك للقانون. لكن.. لم الحديث عن مخالفة القانون في وضع كوضعهم الذي لا يحكمه قانون غير قانون الغاب؟ لقد تم خطفهم من الشارع ونفيهم واحتجازهم في هذه الواحة خارج أي إطار قانوني. ذلك أنه لا يوجد لحد الآن أي إجراء قضائي أو إداري ينظم وضعهم أو يشكل إطارا للتعامل معهم. إنها إرادة وأوامر الحاكم! وهب أن هناك إجراء قضائيا أو إداريا مستوفي الشروط يحكم نازلتهم، فإنه لا يوجد في القانون ما يجيز منعهم من الاتصال بمحاميهم وذويهم، وحرمانهم من حقهم في الإعلام!

فليتبجح المتبجحون بدولة القانون والديموقراطية والعلم والمعرفة التي لا وجود لها إلا على أطراف الألسنة، أو في أحلام الواهمين!

ثلاثة عناصر جديدة حملها هذا اليوم الجديد معه:

ـ ترك لهم الحراس المدخل كتوسعة، وهو عار من الفراش، واحتلوا مخزنا في الجزء الجنوبي الشرقي من الكهف، كانت توجد به أغراض الساكن القديم.

ـ تقرر إجراء الطبخ لديهم، بدلا من إحضار الوجبات جاهزة من منزل الحاكم، على بعد نصف ميل. ولا يدرون حتى الآن من سيقوم بالطبخ.

ـ وصل "الرقيب" يحمل تعليمات جديدة تمنعهم من الخروج عن محيط الكهف. ويعني هذا منعهم من ممارسة رياضة السعي.

* * *

سفيرة موريتانيا وفنانتها المعلومة بنت الميداح، التي شاع صيتها وذاع شرقا وغربا، لا يرد ذكرها مطلقا في جميع وسائل إعلام وطنها الرسمية التي تحاصرها منذ سبع سنوات، عقابا لها على قناعتها ومواقفها المناهضة للفساد والاستبداد. هنا الوضع مختلف. في بو امديد لا وجود للإذاعة والتلفزة الموريتانيتين ولا أثر لجريدة الشعب الخرساء! أو الوكالة الموريتانية للأنباء! بينما تصدح المعلومة صباح مساء في هذا الجانب الفقير من القرية!

ترى من يحاصر من؟

في هذا الأصيل جلس غرب الكهف يراقب غروب الشمس خلف "گنديگه" بلهفة الصائم الضائع.. كان الجو جميلا وهادئا تنعشه نسمات ينفثها الوادي من حين لآخر حاملة ندى الماء وعبق الغلال والمروج. ومن جوف الوادي طلع صبي أسمر من أهل الحي حاملا حصاد يومه من بقول وحبوب يغني في حبور أغنية المعلومة:

"ما خالگ حد أكبر بركه         من محمد للشيخ امبكه"‍‍.

بعد أيام من هذا المشهد، تمكن أحد حراسهم من الحصول على إعارة مسجلة فاخرة وشريط "يودن" للمعلومة من إحدى فتيات الدفعة، فسهروا مع المعلومة تلك الليلة، وقد شرح للشيخين كلمات أغنية "قتالين المحبة" التي حظيت بإعجابهما، ومنها:

قــتاليــن المـــحـبــه
بـــياعيــن العـواطف
خـــلوا دنيتنـا تـرجـع

 

واليـوم الدنيا الاّ صفقه
وابلا رحمه وابلا شفقه

 

ذاك الحــد ال يتـبـسـم
ولّ أنا طـــار شــي فيّ

 

والبسمه والنظره العذبــه
بالمال وبالكذب العاصـف
والنجم ال طــافي يلمـــع

 

تربح فيــــها ولا تشـــق
والكان يكتل ما اتل إحشم

 

شي متـــخيل ولّ حـــلــم؟
مولاه ألاّ شي يتـــــهتــم؟

وتشكل هذه الأغنية - وهي من كلمات المعلومة- ثورة صارخة على الوضع الاجتماعي المزري الذي تردت فيه البلاد بسبب الليبرالية المتوحشة والنهب والطغيان والبطر والعبث، كما تجسد التزام هذه الفنانة الموهوبة بقضايا شعبها العاني، بينما ينعب وينعق ويترنح كالمذبوح - حول مائدة السلطان- بعض الببغاوات المحسوبة على الفن، غير عابئين بمصالح البلد ولا حتى بمصالحهم هم! كما تحمل هذه الأغنية بارقة أمل وتفاؤل وثقة في مستقبل باسم شامته وبشرت به فنانة رائدة في عتمة ليل بهيم!

تنتمي المعلومة إلى أسرة عريقة في الفن والأدب، جمعت رافديهما في منطقة القبلة: أهل الميداح وأهل الببان.. وكان والدها المختار ابن الميداح رحمه الله، في عصره وقطره، حجة في الفن والأدب والتاريخ، ومدرسة متميزة من مدارس الفن الأساسية في البلاد. وفيه وفي أمها عيشه بنت الببان يقول الشاعر والعلامة المختار بن حامد:

إذا ما شدا المختار يوما بجنبه
ترى كل أواب يئــــــن تأوهـا

 

غزال أحم المقـــلتين له حـوه
ومهما تغنى قال كل فتى: أُوّه!

 

بدأت مسيرة المعلومة الفنية منذ صباها. وما إن حذقت فن "أزوان" (موسيقى البيظان) على يدي أبويها حتى تاقت مبكرا إلى الخروج عن المألوف، وتفاعلت مع محيطها المضطرب بفعل رياح التحرر الوطني التي تجتاح البلاد، فغنت للفلاح وتطلعت إلى آفاق لم يتم ارتيادها بعد! وفي الثمانينيات شكلت أغانيها الجديدة (حبيبي حبيتو..) التي سطعت في سماء الفن الراكدة، بدعة في الأغنية الموريتانية، أنكرها وقاومها بشراسة حراس المقابر؛ لكنها ما لبثت أن فرضت نفسها، وأججت ثورة أصبحت مثلا يحتذى من طرف الجميع، بمن فيهم أولئك الذين استماتوا في محاربتها بالأمس.

وفي فجر التسعينيات، تجاوزت الحدود.. وغنت للعراق.

كما غنت للديموقراطية والتناوب، وساندت التغيير، وقادت ربيع نواكشوط بنشيدها الرائع الذي لخصت فيه معاناة وطنها في "گاف" واحد من كلماتها:

دولتنا ما اتلات سمعتها
بيها ضاعت مصداقيتها

 

فالداخل والخارج تطرب
وألاّ عادت مركز للنهب.

 

وساهمت أيضا في رقع خرق النسيج الاجتماعي، الذي مزقه العابثون، فغنت هي وأختها الفنانة منينه، في كل محفل وناد، من مقام المصري الشجي:

نحن يلداير همنا
بونا آدم وأمــــنا

 

وتقول انك تبغينا
حواء أمسلـــمينا.

 

وظلت المعلومة خلال سبع شداد تحدو المعارضة، وتلهب حماس الجماهير، غير عابئة أو مكترثة بما تتعرض له من ظلم واضطهاد وجحود. وثبتت، رغم كل المحاولات التي بذلت بغية إقصائها أو احتوائها، حيث ابتلي وزلزل آخرون.. وظلت تغرد خارج السرب بصوتها القوي العذب:

امعارضين امعارضين امعارضـــين
الشعب ال تاريــــــــــخـو حافـــــل
دايـــــــــر حقــــــــــوقـه متكافـــل
شـــــــــــمـس الحـــــــــــــــــــــق
أحـــــــــــــــتـم اتـمــــــــــــــــزق

 

نحن قررنا أنا امـــعارضين
بالمجد أمجدُ مــــجد أصيـل
ماه قابـل عنهـا بديــــــــل
تطـــــــلع واتـــــــــــشــق
مكـــــر أخــــــداع الــناس

 

أكان بإمكان حملة الرئيس أحمد ابن داداه والمعارضة الشعبية التي انبثقت عنها أن تحقق ما حققته من مكاسب سياسية، وأن تنتشر بهذه السرعة، لولا كلمات وصوت المعلومة؟ وكيف نفسر هذه الظاهرة؟ سؤالان من بين أسئلة كثيرة تطرح نفسها في هذا المضمار.

وإذا كانت "لا" كبيرة هي جواب السؤال الأول، دون أدنى تردد أو شك! فإن معالجة السؤال الثاني تتطلب تسجيل بعض الملاحظات:

أولا: أن تبني الفنانين الأصلاء لقضايا شعوبهم ومساندتهم لحركات التغيير والانعتاق، وتغنيهم بمثل الحرية والعدل والمساواة، ظاهرة أصيلة عرفتها المجتمعات البشرية منذ القدم، ولا يشكل مجتمعنا استثناء في ذلك المجال. إذ بمجرد نظرة خاطفة على تاريخنا الحديث تبرز أمثلة مشرقة على ذلك، مثل الجيش بن محمادُ وأحمدُ ابن الميداح وابن مانو الذين ساندوا حركة الأمير محمد فال بن عمير والزعيم أحمدُ بن حرمة وهاجروا معهما إلى المغرب، والجيش بن سدوم الذي ساند النهضة الوطنية وساهم في قيادتها - رغم إعاقته- وغنى نشيدها الوطني بصوته الشجي الجميل:

هذا آخــــــــــــر نومنــا
لقد نـــــــــفى عنا الونى

 

بــــــــــــلادنا لا تشتكي
طمـــــــــــوحنا ومجدك

 

وأخيرا، الفنان الكبير، والمحامي الفذ، النقيب محمد شين بن محمادُ رحمه الله الذي فجرت أناشيده في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات حماس الشباب الموريتاني في العيون وروصو وداكار ونواكشوط وغيرها، وسمت بحركة الكادحين إلى مستوى رفيع جعلها تقترب في أمد قياسي من بلوغ مرامها. ومن أبرز تلك الأغاني للتذكير: "شباب البلاد" و"نظم شباب مسؤول خلي النضال يحمى" و"مدوا الأيدين للكادحين" و

 

"في الجبن عار وفي الإقدام مكرمة    والمرء بالجبن لا ينجو من القدر"!

 

ثانيا: أن الفنانين (إيگاون) بحكم دورهم الجوهري في مجتمعنا، كأمناء على الثقافة والتاريخ والقيم الاجتماعية، يشكلون فئة متميزة في أصالتها ووفائها وحرصها على سلامة روح المجتمع الذي تمتلك قدرة هائلة في التأثير فيه، خاصة أن أسلحتها الكلمة والنغم والوتر! وتاريخنا مليء بالأمثلة على ذلك. ومنها على سبيل المثال:

* يحكى، في موروثنا، أن أحمد محمود بن لمحيميد، مؤسس ملك مشظوف، لما فرغ من بقايا أولاد امبارك واستتب له أمر إمارة الحوض، جمع حاشيتهم وسألها عنهم. قال رجل من البطانة إنهم كانوا طغاة ولؤماء وجبناء! فما كان من أحد كبار الفنانين إلا أن ثار وامتشق عوده وطفق يندبهم ويتغنى بمآثرهم وأمجادهم ويبكي! من يومها أصبح تراث أولاد امبارك وفنهم تراثا وفنا للدولة التي قامت على أنقاضهم؛ وظل - كما كان- ركنا أساسيا من تراث و"أزوان" البيظان! وأمر أحمد محمود - وكان فارسا ورجل دولة- بإبل وخيل وعبيد للذي افترى على القوم بعدما بادوا، وأمره بالخروج فورا من الحوض. وأهدر دمه إن عاد إليه. واتخذ الآخر وزيرا، وتقول الحكاية إنه جد أهل النانه!

* كان الفنان احمود بن انغيميش في بلاط الأمير سيد أحمد ابن عيده في أطار، ولما ثار الأمير وهاجر يحدو المقاومة ضد الغزاة الفرنسيين، رحل الفنان جنوبا فحل أهلا ونزل سهلا في جوار الشيخ سعد بوه المنيع، فكان بيته منتدى لفتيان البيظان، تصدح فيه موسيقى عوده البديع كل أصيل، وتدور كؤوس الشاي، ويفوح عبق التبغ المطعم بـ"أم اكويرصه" ويتبارى الندامى في إنشاد وإنشاء الشعر ولغن (الملحون)! وذات أصيل حضر النديُّ على عادته، وقد نعي الأمير سيد أحمد، فراغ احمود إلى خيمته ليوقد الفرن ويعد الشاي! هنالك كسر عوده وأطعمه النار! فالتيدنيت التي كانت تصدح حرة في "عافية" أهل لفظيل لا يمكن أن تبدل صوتها أو تتغنى بالعبودية! ولما عذلوه أنشأ:

 

عقلـي لمّــــــــــتّـن تلاهُ
والتالي من لعـــرب راهُ

 

قلت عربي يملأ لقـــلـوب
مدفون افوديان الخــروب

 

ولم يحرك بعد ذلك اليوم وترا إلى أن مات!

* وفي دولة مالي الشقيقة المجاورة - والفن السوداني أحد أبرز روافد فننا؛ خاصة أن معظم العائلات الفنية عندنا تنحدر من أصول سودانية عريقة في معظم الأحوال- كان مؤجج ثورة أطاحت بوضع استثنائي مزر، فنان رأى ما آل إليه وضع البلاد والعباد، ورأى الناس ينصرفون عن الشأن العام ولا يبالون، فحمل عوده ولجأ إلى المقابر، وفيها أخذ يعزف أعذب ألحانه وأشجاها ويخاطب الموتى: "لجأت إليكم، بعد أن عجز الأحياء، أشكو ما آلت إليه أوضاعنا، وذلك لما أعرفه فيكم من شجاعة وإباء وإقدام لم تورثوها لبنيكم!"

وما إن انتشر النبأ في باماكو حتى انتفض الأحياء وهبوا جميعا لنجدة ضميرهم وتقويم ما اعوج!

ناهيك عن دور الفنان العظيم سدوم الغائب الحاضر يوم "تيدگيت ـ جوك" بين أولاد امبارك وإدوعيش!

ثالثا: أن المعلومة ليست فنانة فحسب، بل هي مثقفة كذلك، وشاعرة، وكاتبة، وإنسانة، مرهفة الحس، ومفعمة بالروح الوطنية.

* * *

الساعة الآن منتصف الليل إلا عشرين دقيقة. نام الخليون من حوله وسامر أبا الطيب إلى وقت متأخر:

 

أركائب الأحباب إن الأدمعا ** تطس الدود كما تطسن اليرمعا

                    و

الحزن يقلق والتجمل يردع ** والدمع بينهما عــــصي طيــع

أيموت مثل أبي شجاع فاتكٍ ** ويعيش حاسده الخصي الأوكع

                    و

لجنية أم غادة رفع السجف؟ ** لوحشية؟ لا. ما لوحشية شنف
ومن كلما جردتها من ثيابها** 
كساها ثيابا غيرها الشعر الوحف

وقابلني رمانتا غصن بانة ** يميس بها بدر ويمسكها حقف

                و

أيدري الربع أي دم أراقا؟ ** وأي قلوب هذا الركب شاقا؟

                 و

لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي ** وللحب ما لم يبق مني وما بقي
وما كنت ممن يدخل الحب قلبه ** ولكن من يبصر جفونك يعشق

                و

تذكرت ما بين العذيب وبارق ** مجر عوالينا ومجرى السوابق
وصحبة قوم يذبحون قنيصهم ** 
بفضلة ما قد كسروا في المفارق

ولــيل توسدنا الثوية تحتــه ** كأن ثراها عنبر في المــرافق
بلاد إذا زار الحسان بغيرها ** حصى تربها ثقبنه للمخانــق
سهـــاد لأجفان وشمس لناظر ** وسقم لأبدان ومسك لناشق
وأغيد يهوى نفسه كل عاقل ** 
عفيف ويهوى جسمه كل فاسق.

 

حان وقت الرياضة. سمح له الحراس بمدى خمسين مترا. هاهو ذا يذرعها جيئة وذهابا للمرة الأربعين. لقد شعر بالتعب لثقل المشي في الرمال ولبرودتها التي تجمد الأوصال.

في الحلقة القادمة: رسالــة بو امديد

 

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 10 زوار  على الموقع