مفهوم الوطن، والتغني به وبأمجاده في الشعر الموريتاني (1/4)
السبت, 25 فبراير 2012 11:01

 

أو رحلة الالتزام والتجديد في الشعر الموريتاني*

مدخل: ما هو الوطن؟

altالوطن. ذلك الإقليم (أو الأقاليم - الأقانيم) الذي من الإيمان حبه. هو في الأصل "المنزل تقيم به، وهو موطن الإنسان ومحله". (لسان العرب "و ط ن") وهو في لغة العصر "المكان أو المنطقة التي يرتبط بها الشعب ـ أو الفرد ـ ارتباطا تاريخيا طويلا. أي المنطقة التي تولدت فيها الهوية الوطنية للشعب. والمكان الذي يُفدى بالروح والدم، ويُتغنى بأمجاده. وليست هذه المنطقة الجغرافية بالضرورة مكان ولادة الشخص؛ بل هي المنطقة الجغرافية التي ولدت فيها أمته". (موسوعة ويكيبيديا "وطن").

ويتسع مفهوم الوطن ويضيق تبعا لمدى الوعي وعلو الهمة ورحابة الخيال؛ فيكون "امرأة" و"عينين نجلاوين" و"مآرب" أخرى... و"بلاد بها نيطت علي تمائمي" أو "وطني لو شغلت بالخلد عنه..." و"... وطن الشعب العربي" و"شرق" بكامله!

وفي عهود طارق بن زياد وعبد الرحمن الداخل ويوسف بن تاشفين ومحمد الفاتح امتدت ظلال الوطن العربي الإسلامي الوارفة فشملت أجزاء كبيرة من أوروبا.. ثم تقلصت بعد سقوط الأندلس والبلقان فصار "من غرب إفريقيا إلى آسيه"!

مفهوم الوطن في الشعر الموريتاني القديم

وفي بلادنا (موريتانيا) ظل مفهوم الوطن بدائيا في ذاكرتنا الجمعية (كالشعر مثلا) إذ كان وطن الشاعر لفترات طويلة من الزمن قبيلته ومربعه. وكان الفخر والنسيب حُداءه "الوطني" إما بـ:

"إنا"

إنا بني حسن دلت فصاحتنا ** أنا إلى العرب العرباء ننتسب

إن لم تقم بينات أننا عــرب ** ففي اللسان بيان أننا عــــرب

أو"... نا"

لنا العربية الفصحى وإنا ** أشد العالمين بها انتفاعا

فمرضَعنا الصغير بها يناغي ** ومرضعنا تكورها قناعا

أو"نحن"

ونحن ركب من الأشراف منتظم ** أجل ذا العصر قدرا دون أدنانا

قد اتخذنا ظهور العـــيس مدرسة ** بــها نبـــين ديـــن اللـه تبــــيانا

أو"آل"

آل يعقوب شمروا للمعالي ** واستعدوا لما تُجيء الليالي

وأعدوا لكل خطب جليل ** عُدّهُ من عزازة ونوال

وتواصوا بالحق والصبر وابغوا ** في العفاف الغنى على كل حال

والهوينى دعوا وللمجد فاسـمــوا** فصعاب العلى بصعب الفـــعال

أو بالوقوف على "مغاني ومعاهد الحي" كـ"مغاني ذات الطبل" لـ امحمد ولد أحمد يوره:

مغان بذات الطبل لا غبها الوبل ** ولا غب أياما مضين بها قبل

بها ابتل جفني والحشى متحرق ** ورقّ اصطباري بينها والهوى عبل

غمزت بذات الطبل عيني عن البكا ** فجادت بأضعاف كما يغمز الطـــبل

و"گرارية" و"فاي" سيدنا:

أيا مخبرا أن الگراريّه رَبَّعت ** ودارات فاي نَوْرها يتلألأ

نكأت جراحا في الفؤاد دفينة ** إذا ذكرت تلك المعاهد تنكأ

و"بحير" محمدي ولد أحمد فال:!

ألا يا بحير اللهو والصفو والأنس ** عليك سلام الله يا وجنة الشمس

عليك سلام الله يا مربع الصبا ** ويا مجمع الأحباب والأهل والجنس

صبرنا وهاجرناك في الشرق سبعة ** فعادت بنا ذكرى مواضيك بالأمس

وغير ذلك..

التغني بالوطن وأمجاده في الشعر الموريتاني

1. إرهاصات التغني بالوطن وأمجاده عند القدماء

لما تقدم، فليس غريبا، أن لا يجد الباحث في شعر ما قبل الحداثة في موريتانيا تواترا على استخدام عبارة الوطن أو ما يؤدي دلالتها، أحرى أن يكون ورود تلك العبارة قد قصد به التعبير عن المفهوم المعاصر للوطن؛ والذي تطرقنا إليه في بداية مدخل هذا الحديث. ولعل ذلك راجع بالدرجة الأولى لحياة المجتمع البدوي الموريتاني الذي طبعته "السيبة"، وتعدد الكيانات، والعلاقات القبلية والجهوية قرونا وقرونا، على حساب الكيان الوطني الواحد المنظم والمفهوم الجمعي.

ـ فـ"امحمد" ابن الطلبة في قوله:

عصبة أسرة لمن قد تناءى ** فاشتكى بُعْدَه عن الأوطان

ـ والمصطفى ولد أحمد (بو فمين) في قوله:

أصخ لقبرة نأت عن الوطن ** كما نأيت ويبكي ساكن الوكن!

ـ والشيخ سيدي محمد (سيدنا) ولد الشيخ سيديه في قوله:

هاج التذكرَ للأوطان في الحين ** برق تألق من نحو الميامين

ـ ومحمدو ولد محمدي في قوله:

هل في بكا نازح الأوطان من باس ** أم هل لداء رهين الشوق من آسِ

كلهم ـ رغم جلال قدرهم وجمال شعرهم ـ وهم من رواد استخدام عبارة "الوطن" في الشعر العربي في موريتانيا، لا يبدو أنهم أرادوا بها شيئا غير مغاني ومعاهد ومرابع الحي والأوكار.

وحتى ابن محمدي الذي كان احتمال أن تعني "الأوطان" لديه مدلولا أوسع وأشمل في مقابل الوطن ـ الدولة الذي اغترب إليه، لم يكن يعني في الواقع ـ وباعترافه ـ سوى مرابع أترابه وجنسه المفتقد!

آهٍ لمغترب في الغرب ليس له ** جنس وإن كان محفوفا بأجناس

وإذا كان الشيخان المختار ولد بونه ومحمد المامي هما أقرب معاصريهما إلى استخدام ما يعبر عن المضمون الجمعي للمفهوم المعاصر للوطن الذي عبر عنه الأول بـ"ركب من الأشراف منتظم". ودعاه الثاني "بلاد العامري" نسبة إلى القائد المرابطي أبي بكر بن عمر (ببكر بن عامر). إلا أن من غاص في نصيهما: "حدت حداة بني يحيى ابن عثمانا" و"على من ساد أمرد أو جنينا" سيجد أن الشيخ المختار بن بونه وإن تغنى في قصيدته بأنبل الخصائص العامة لمجتمع "البيظان" فإنه لم يكن يعني بـ"ركب أشرافه المنتظم الجليل" سوى نفسه التي يعتد بها أيما اعتداد ومحظرته ومريديه وقبيلته أولا، وابن لفظيل بن شنان الذي استنقذ به إبله ثانيا، و"الگبله" التي يفخر بشجاعة حماتها ويحدوه الشوق إلى الحبيب فيها وإلى أهلها وأخبارها ثالثا:

ونحن ركب من الأشراف منتظم ** أجل ذا العصر قدرا دون أدنانا

قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة ** بها نبين دين الله تبيانا

أما الرجال فزنهم بالخطوب ولا ** تقم لنا العين دون الفعل ميـزانا

إني امرؤ لم أضـق دهــرا بنائبــــة ** ولا أخون خليلا لي وإن خانـــا

ولا أعـــول في أمــري على أحــد ** ولا أنائــي حبيبــا ناء أو دانــى

ولا ينهنهنــي عــن حاجتـي جـزع ** ولا أليـــن وإن ذو لوثــة لانــا

ومن تأمل أدراه تأمله ** أني على الخطب جلد جل أو هانا

***

نزعتُ إبْلِيَ قهرا من بُغاتهمُ ** بفضل من هو أنشاهـم وأنشانـا

ولو نشاء حدتها غير خائفة ** حداتنا بين كروم فدامانا

وطالما قد حمتها في مواطنها ** أسْدُ الشرى فتية فدتك فتيانـــــا

من كل آب كمي فارس بطل ** عاداته القتل للأبطال مجانا

أحلى من العسل المختوم عندهم ** موت الفجا في الوغى مهما الوغى حانا

حماة سير ثلاث من بلادهم ** ولا تصيب لهم ضراء جيرانا

وقلت والقوم في ذل وفي خجل: ** لله در ابن لفظيل بن شنانا

خلى الرجال رجالا لا حياة لهم ** خلى النساء إماء لسن نسوانا

***

ولابن زيدون قول في الحبيب أنا ** أحق منه به سرا وإعلانا

"أيا نسيم الصبا بلغ تحيتنا ** من لو على البعد حيا"نا لأحيانـا

يا فتية الركب كونوا مسعدين علـى ** أرض عهدت بها للأهل أوطانا

وليرتق البعض منكم ممعنا نظرا ** على المعالم إمعانا فإمعانا

هل أقبلت من بلاد العُقْلِ قافلة ** تحكي لنا خبرا بعدي بما كانا

بأن أبناء يعقوب الغداة غدت ** بأرض تنياشل اَوْ حلت ببلشانا

وبالأبيتر أخوالي الذين همُ ** إخواننا العف من أبناء ديمانا

يا ليت شعري وأمر الغيب محتجب ** ما أحدث الله في أبناء دامانا

وما جرى بين بكار وشيعته ** وبين ألمامي مما شان أو زانا

وما جرى بين أغرمان بعدكمُ ** وبين الاحياء من أبناء دامانا

وأما دعوة الشيخ محمد المامي إلى الجهاد وتنصيب إمام في "بلاد العامري":

"وقلتم لا جهاد بلا إمام ** نبايعه فهلا تنصبونا

وقلتم لا إمام بلا جهاد ** يعززه فهلا تضربونا"

فإنها - على أهميتها في هذا الموضوع وبعد نظر صاحبها- لم ترْقَ إلى درجة الدعوة الجمعوية الوطنية بقدر ما كانت دعوة "خمسية" (شمشوية) أصولية ربما هدفت إلى إنشاء إمامة للزوايا على غرار إمامة شرببه قريبة العهد، أو إمامة آفطوط الغابرة، أو هي محاولة لبعث العهد المرابطي المندثر.

أبى طيف الأحبة أن يبينا ** وقلبك للعواذل أن يلينا

فإن المرء قد يمسي غريبا ** بأرض غير بلدته رهينا

***

بلاد "العامري" لنا اصطفاها ** فبارك ربنا فيها وفينا

نزور بها مقابر دارسات ** على قِدَمِ العهود مخلدينا

معادن حكمة وسداد رأي ** وأسرار بها متصرفينا

من البيت الحرام لهم ملاذ ** بأستار بها متعلقينا

تخبرنا الأباعد ما جهلنا ** من الخير الذي هم فاعلونا

لهم همم علت فوق الثريا ** بها شادوا لنا برجا متينا

وعابونا بها فمتى نزلنا ** سوى زحل عددنا عابثينا

هي الحسب المضيء لنا لو اَنا ** على الآثار منهم مقتدونا

فنعمرها مطرفة ولسنا ** بعروة طبل قوم آخذينا

ونعلم أن بعد الخير شرا ** وبعد الشر خيرا ما بقينا

ونعلم أنه سينام جد ** كما نامت جدود الأولينا

وأن لا شيء إلا الله باق ** وأن الدهر يبقى منجنونا

وليس الأكرمون على الليالي ** ولا وقع القنا بمحرمينا

***

وقلتم لا جهاد بلا إمام ** نبايعه فهلا تنصبونا

وقلتم لا إمام بلا جهاد ** يعززه فهلا تضربونا

إذا جاء الدليل وفيه دور ** كفى ردا لقوم يعقلونا

***

فيا تاشمش أهل الذكر منكم ** سلوا إن كنتم لا تعلمونا

كذلك أنتم حيث اجتمعتم ** على نصب الخليفة تقدرونا

فينفي ظلم بعضكمُ لبعض ** وبالحد المقام تطهرونا

وينصب حاكما بالعدل يقضي ** فلستم بعده تتنازعونا

ويضحي أمركم شورى لديكم ** وتتفقون فيما تصنعونا

***

ألم تر أننا نفر قليل ** ونعدل إن وُزِنَّا الأكثرينا

فإما لوذعي أو خطيب ** وإما عالم جمع الفنونا

وكنا خمسة الحفاظ منا ** مضاعفة وغير مضاعفينا

تيامن من تضاعف وانفردنا ** بثغر لا يقال به: منونا

تخب ركابنا في كل أرض ** قعودا في نحور الديلمينا

***

وحتى عندما احتك وطننا بالغزاة الإفرنج ودخل في تناقض مصيري معهم، ابتداء من القرن السابع عشر، فإنهم عرّفوه بساكنته وليس بمحيطه الجغرافي فدعاه بعضهم "أرض الرجال"، وسماه آخرون "بلاد البيضان" (Pays des Maures)، "ومع مرور الزمن شاع استخدام تسمية "بلاد البيظان" في مختلف الوثائق الفرنسية المتعلقة بالمنطقة" (نصوص من التاريخ د. محمدو ولد محمذن). بينما ظل خطاب الساكنة أنفسهم ينصب في أبرز مظاهره - أيام التوغل والاحتلال الفرنسي- على الصراع بين الإسلام والكفر، دون أدنى إشارة لأي تناقض من نوع آخر! أي ذلك الذي بين الوطن وغزاته الأجانب!

يقول الشيخ سيدي محمد ولد الشيخ سيديه مستصرخا المسلمين:

"حماة الدين إن الدين صارا ** أسيرا للصوص وللنصارى"

فــإن بادرتمــوه تداركـــــوه** وإلا يسبــق السيــف البـدارا.

ويقول الشيخ محمد العاقب ولد ما يابه مخاطبا ومنذرا مَن "مِن غورغول لما وراء العُقل":

"لا تشتروا دًنيّة بدينكم ** لم يرضها غير الدني الأرذل

ترجون أمن الكافرين بعدما ** نفاه نص المحكم المنزل

تالله ما لكافر عهد ولا ** له أليّة إذا ما يأتلي

والجور والإسلام في بلادنا ** خير من العدل مع الكفر الجلي

يا عجبا لحازم يخشى العصا ** ولا يبالي بالظبا والأسل

يظل لا ينال أمن يومه ** وهو يرجي الأمن في المستقبل

ولكن أجيال الشعراء سرعان ما صحت من سباتها، فواكبت الزمن، وتكلمت لغة عصرها، وأدخلت في خطابها الشعري مفاهيم وطنية جمعوية جديدة كـ"الوطن" و"الموطن" و"البلاد" و"الأرض" و"الشعب" و"الأمة" و"شنقيط" و"موريتانيا" تغنت بها، وبأمجادها، كل على ليلاه!

ولعل أول من استخدم التعبير الأسمى والأرسخ في مسلسل المفاهيم المذكور: "موريتان" بمفهومه الوطني الجامع الموحد في الشعر العربي هو الشيخ بابه ولد الشيخ سيديه داعية وجوب الاستعانة بقوى خارجية بغية فرض السلم وتحقيق وحدة البلاد، في مواجهة واقع السيبة والتشرذم.

"فرحت بلاد مورتان بـ"كولنل" ** فرح البلاد بوابل مسترسل

بالحاكم العدل الهمام المرتضى ** والفاضل الندب الكريم المفضل

***

من معشر ألفوا التجلد في الوغى ** والصبر إن عرك الزمان بكلكل

متعودين وصال يوم أيوم ** جم صواعقه بليل أليل

وكأن في أخلاقه لصديقه ** بردى يصفق بالرحيق السلسل

 

ــــــــــــــــــــ

*ورقة أعدت للمهرجان السنوي السابع للأدب الموريتاني، المنظم من طرف اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين في نوفمبر 2011.

 

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 10 زوار  على الموقع