| حُروفٌ بعدَ المَوْتِ |
| الأحد, 06 ديسمبر 2020 07:46 |
|
محمد ولد زين
رحلت "امامه" إلى رب كريم وتركتنا في مهب الوجع، نقتات على اللحظات الجميلة التي عشناها بمعيتها، والذكريات التي نجترُّها الآن على هامش الغياب. في أبي ظبي كنت قد أكملت للتو إجراءات السفر باستلامي نتيجة فحص الكورونا.. شيء ما يستعجلني للذهاب إلى انواكشوط الذي عدت منه قبل 14 يوما (أمضيتها في الحجر المنزلي). صراحة لم أستوعب ما حدث ويحدث مع شقيقتي الوحيدة وهي ترقد في المستشفى.. غير مقتنع بما يصلني من تطمينات؛ لذلك قررت السفر على عجل لرؤيتها؛ وهو ما لم يتحقق، فـ "ليس بين الحياةِ والموتِ إلا ** حاجزٌ -عندما يزاحُ- ضئيلُ". هول الصدمة تبدى في وجوه زملاء تداعوا لزيارتي في البيت؛ بحجة أنهم جاؤوا لوداعي. بعضهم علم برحيل شقيقتي، فأسرها (لمين عبدو) في نفسه إشفاقًا.. وآخرون منهم لما يلحقوا بنا، غادروا غرف الأخبار الساهرة لرصد نتائج الانتخابات الأمريكية، ليخبروني بما علموا. سألت جلسائي ما سر هذا التجمع غير المتوقع؟ ترنح أحدهم وقال: "جايين انوادعوك أمالك مسافر.. ونشربو امعاك كاس من أتاي".. رن هاتفي فهذا رفيقي "صدام" الذي لم أتواصل معه منذ عدة أشهر.. قلت لهم: "هذا اخبارو هو امَّلِّي.. فم ش ماه طبيعي". فتحت الخط، بدا مرتبكا. لعله فهم أني لم أعلم، حاول التهرب مؤكدا أنه اتصل للسلام علي، لكنه في النهاية نعى أختي - تحت ضغطي عليه- مبديا أسفه لكونه أول من أخبرني بالمصاب الجلل.. تنفس جلسائي الصعداء، فقد أذاع صديقي السر الذي أرادوا إخفاءه، ولو بعد حين، تماما كما "تواصى" الأهل في انواكشوط على أن لا يخبروني. أمضيت ساعات مرت سراعا في أبي ظبي بين أصدقائي قبل الانتقال إلى مطار دبي، فوباء كورونا اللعين غير عاداتنا في كل شيء، حتى السفر؛ فكما أن "العطاس" أصبح "شبه جريمة" فالبكاء كذلك؛ خصوصا في مطار "صامت".. في قاعات الانتظار مر شريط ذكرياتي مع المرحومة ولقاءاتنا خلال عطلتي الأخيرة، كما لو أنها ومضات سريعة تتخللها كلماتها الناطقة التي أكاد أخفيها، والتي أدركتُ لاحقا أنها كانت بمثابة "وصايا مودع". عشر ساعات ونصف الساعة من الطيران المباشر من دبي إلى داكار، حاولت فيها اختبار قدرتي على الصبر، وقد اغرورقت عيناي بالدمع عدة مرات، لِمَ لا؟ وأنا القادم إلى انواكشوط، ولن تستقبلني "امامه" هذه المرة كما هي عادتها، كما لم تودعني آخر مرة، وتلك إشارة أخرى. أمضيت أغلب وقت الرحلة الطويلة، وأثناء فترة التوقف لساعات في داكار، في الرد على رسائل المعزين فيما يشبه التحضير لما ينتظرني على الأرض؛ إذ علي أن أتماسك أمام والدتي - أطال الله بقاءها- وهي المحتسبة الصابرة، وأمام أبناء الراحلة؛ وهو ما أكد عليه خالنا (التاه ولد محمد بابه) قبيل الإقلاع بقليل من داكار بقوله: "سيكون أولاد الشدو في استقبالك بالمطار تماسك أمامهم مازحهم.. أعرف صعوبة الموقف، لكن هذا هو المطلوب حاليا".. لكأنه كان يقرأ في أذني عزاء الأعرابي لعبد الله ابن عباس: اصبرْ نكنْ بك صابرينَ فإنما ** صبرُ الرعيةِ عند صبرِ الراسِ خيرٌ من العباس أجركَ بعده ** والله خـــيرٌ مــنكَ للعــــــــباس.. بدأنا الهبوط بمطار أم التونسي، غالبت البكاء مستعينا بما تعلمته "أيام المسرح" متقمصا شخصية شيخ كُبَّار يرى فجائع الدهر على تنوعها كما لو كانت روتينا مملا. في الخارج عانقت أبناء أختي (معالي.. المختار وبدي) بحرارة، لكني أحسست أنهم يخفون ما أخفي؛ بل أجزم أنهم كانوا "من صعوبة البكاء يضحكون". إنا برحيلك لمفجوعون.. لكن مآثرك باقية بيننا. وهنا أعزي فيك أسرا ضعيفة وأيتاما كنتِ لهم سندا وكفيلاً وحاملة همٍّ.. ومن منطلق "الدال على الخير كفاعله" أحتفظ برسالتك الأخيرة وأنت على فراش المرض، التي تحاملت فيها على كل أوجاعك لتذكريني أن موعد نفقتهم وكسوتهم قد قرب. لن أنسى تلك الكلمات التي تحولت إلى "وصية" ما حييت.. فلا غرو إن طابت صنائع ماجد ** كريم.. فماء العود من حيث يعصر. شخصيا لن أنسى - وما أشد نسياني إن نسيت- أفضالك الكثيرة علي. قلتها في وجودك.. إني مدين لك، وها أنا أكررها بعد رحيلك؛ إذ لا أنكر أن الفضل ديدنك و"من شيمة الكأس أن لا تنكر الساقي". أعرف أن طريقك صعبٌ سلوكُه واقتفاؤه. ومع ذلك سأحاول، رغم يقيني أن الشمس لا ينبغي لها أن تدرك القمر. أختي وملهمتي وسندي.. كتبت هذه الحروف وأعلم أنك لن تقرئيها، لكنها متنفسي الوحيد؛ فبرحيلك تيتمتُ ثانية.. لم تسعفني حروفي التي أعتاش عليها منذ 20 عاما، فبدت عاجزة عن التعبير، وكأن الإعياء هدها من هول الصدمة. امامه.. "لستُ أرثيك.. لا يَجوزُ الرِّثاءُ ** كيفَ يُرثى الجَلالُ والكِبرياءُ"؟! |
