أدونيس: هذا هو اسمي (ح 4)*
الجمعة, 11 مايو 2018 07:19

 

"يجب أن تشرب الشجرة من ماء أرضها، وتتغذى من تربتها أوَّلاً"

altبيار: إذن جئت لبنان وأنت قومي..

أدونيس: طبعا.

بيار: والتقيت بالزعيم مرتين؟

أدونيس: مرة في اللاذقية وأخرى في بيروت. لكن لم أفهم شيئا منه، كنت طفلا. لكنه كان شخصية ساحرة ودهشت به ولم أستطع أن أناقشه أبدا. لكن في المرة الثانية كانت في مكتبه 1947 قبل اغتياله.

أنا أحترم تجربتي في الحزب كثيرا، لأنها فتحت لي أبوابا كثيرة، وعرّفتني بالعالم أكثر، وعرّفتني بالأفكار أكثر، وأنا شخصيا كنت أرى أن لديه أفكارا يسارية غير عادية.. كاملة. 

ومرة كتبت مقالا افتتاحيا بعنوان يسارية الحزب القومي الاجتماعي وأنا على أهبة مغادرة الحزب، وقد هوجم المقال من طرف عدد من قيادييه؛ أتذكر منهم نجيب عبد الله سعادة رئيس الحزب. كانوا قد سلموني إدارة جريدة "البناء" فكتبت لها سبع افتتاحيات أنا الآن بصدد البحث عنها، ومن بينها هذه المذكورة. طبعا أثارت ضجة كبيرة، وكان أول من اعترض عليها الراحلين إنعام رعد وأسد أشقر، اللذين تبدلا بعد ذلك في اتجاه يسارية الحزب. أقول هذا للتاريخ.

"المدينة

أثداء الشوارع تدر غزيرة هذه السنة،

غير أن الحليب دم،

وملائكة التقوى تتعارك

فوق رؤوس المارة،

بين أقدامهم:

رأيت ملاكا يستبسل لقتل جاره الطفل،

ورأيت ملاكا يسيل دمه في صندوق من الورق المقوّى.

وفي فرن على الزاوية،

كانت تفوح رائحة عصر لا يخبز

غير الجثث وغير الحوريات..

إنها المدينة.

فتشت عن ذاكرتي.

كانت غارقة في عراك

مع أسوار من الحديد والتعاليم

وأبواب يفتحها اللهاث ويغلقها.

منذ تلك اللحظة..

لا أكاد أتفوّه باسم هذه المدينة

حتى يكسوني الرمل.

إنها المدينة.

من أخمص القدم إلى أعلى اليافوخ

يمتلئ جسدها بمتاحف الشمع.

وثمة أجنحة تنقرض

وينابيع لا تقدر أن تبوح بمائها.

 هو عاشقها المتشرد

سيميائي صديق الأفلاك

ينصب إنبيقه على قارعة التاريخ

ويعالج الهواء.

 

افهميني أيتها البلاد التي أنتمي إليها

لا أستطيع أن أُحَصِّنك

إلا بأجنحتي".

 

بيار: نود أن تروي لنا قصة الدقائق الخمس التي كان لها ما بعدها من حياتك وأنت تجتاز الحدود اللبنانية.

أدونيس: بعد سنة أمضيتها في سجن المزة، وما هو أخطر من سجن المزة كان سجن القنيطرة على الحدود لكني أتيت هكذا بدون شيء.

وأنا على الحدود اللبنانية السورية حدث غزو قناة السويس، وأعلن النفير العام في كل البلدان العربية، وكانت سوريا من أوائل الدول التي أعلنته، فاستدعت جميع المجندين والجنود، لكني في هذه اللحظة بالذات كنت قد اجتزت الحدود وصرت في الجهة اللبنانية! وجرت لي مصادفات من هذا النوع غيرت حياتي بكاملها، منها إلقائي القصيدة أمام رئيس الجمهورية.

بيار: كيف كان المشهد في بيروت وغيرها؟ العالم العربي في الخمسينات كان فيه التراث الذي يُتعاطى معه كجثة، وكان فيه شعراء مثل الجواهري وبدوي الجبل وغيرهما ممن مثلوا مرحلة انتقال إلى الحداثة وقصيدة النثر، كان اسمه الشعر الحر؟

أدونيس: كان اسمه الشعر الحر.

بيار: كان قليلا في سوريا ولبنان.

أدونيس: نعم، لكن من الأشخاص المهمين جدا فؤاد سليمان الذي كتب تموزيات، ومنهم إلياس خليل دخالية وكان منفيا، ومنهم الأستاذ بوه آزال، ورجعنا إلى نصوص جميلة كتبها أمين الريحاني وجبران، فكان هناك ما يمكن اعتباره مختبرا حيا، لكن مع ذلك – ومع الأسف- لم ننتبه بعمق إلى هذا المختبر المحلي الحي، واهتممنا أكثر بالمختبرات الأجنبية. وأنا طبعا لست ضد التأثر باللغات الأجنبية؛ فأعتقد أن اللغتين الفرنسية والإنگليزية أسهمتا بشكل كبير في التجربة الشعرية الحديثة، لكن الشجرة يجب أن تشرب أولا من ماء أرضها، وتتغذى من تربتها، ثم تنطلق إلى الآفاق الكونية.

بيار: وردة تحمل الليل كله

بين أكمامها،

تتكئ على صدر بيروت،

فيما تعطي خصرها لزند الهواء،

وفيما تحضن الحياة بيوضها

واضعة قدميها على درج المستقبل.

هذا من "تنبأ أيها الأعمى" 2010 فقط. أود أن أسألك: أهكذا بدت لك بيروت حين جئتها من دمشق للمرة الأولى؟

altأدونيس: في البداية كانت مجرد حلم، كنت أحلم بالانتقال من وضع مغلق إلى وضع منفتح أو أقل انغلاقا على الأقل. ومع الخبرة الحية المتواصلة؛ وخصوصا بعد أن زرت أكثر من عاصمة عربية، أخذت أكتشف أهمية بيروت، وتراءت لي كأنها المدينة العربية الوحيدة التي لم تكتمل بعد؛ والتي لا تكتمل. هي في حراك متواصل نحو بناء هويتها ونحو المستقبل؛ في حين تبدو العواصم العربية الأخرى مكتملة ونهائية. وهذا ما ربطني ببيروت بوصفها مشروعا مفتوحا على المستقبل، وكمثل قصيدة أو تجربة حب بلا نهاية، تُكْتشف وتبنى يوميا. وهذا برأيي ما يميز بيروت عن بقية البلدان العربية حيث لا يضاف إلى تلك البلدان أي شيء. دمشق مثلا تشعر أنها مكتملة حين تزورها أو تعيش فيها، وكذلك القاهرة. هذا لا يعني أن تلك المدن غير جميلة؛ وإنما بنيتها شبه كاملة، بينما بنية بيروت قائمة على البحث والتساؤل، وهي إذن قائمة على الانفتاح، ومن ثم فمسؤوليتها أكبر اتجاه العالم واتجاه نفسها واتجاه التاريخ الذي عاشته عبر أكثر من 5000 سنة.

بيار: في إحدى كتاباتك تقارن دمشق بصندوق هائل مقفل، بينما تبدو بيروت أفقا وفضاء.

أدونيس: بالضبط. هذا أول إقامتي ببيروت. كانت شغلي الشاغل، ولذلك كانت - بالمعنى الرمزي- كقصيدة أتصارع معها وأعيد كتابتها باستمرار. وعلى المستوى الحياتي كانت أكثر حيوية وأكثر حراكا، وأكثر ارتباطا بالتجربة. قائمة على الحركة اليومية وعلى المعاناة لنحت الأفكار المسبقة أو على نظم فكرية معينة ويجب أن تتجه وفقا لها في حرية للفرد، مع أن الفرد يَقْوَى بدمائه الطائفية أكثر مما يَقْوَى بعبقريته كشخصية.

أنا شخصيا كنت أرى هذا، لكن اللبناني تغلب عليه، ولذلك أرى كثيرا من أسباب الهجرة تعود إلى أن هوية اللبناني قائمة على البحث والتساؤل والاستقصاء؛ والهجرة ظرف مناسب لكل ذلك. الهجرة بُعد عميق للشخصية اللبنانية وليست مجرد خروج أو هرب من واقع معين صعب.

بيار: نعود إلى بيروت التي اعتبرتها جمهوريتك الفاضلة عقودا من الزمن. كأن ما ينقص دمشق هو الحرية والتجربة والحداثة، وينقص بيروت هذا البعد الحضاري الثقافي التقليدي.. كيف جمعت بينهما؟

أدونيس: الفرق هنا كبير. بيروت قائمة أساسا على التعدد، وبالتالي على التنوع والاختلاف؛ أو هذا ما يفترض. إذن فهي هوية تعددية، بعكس دمشق القائمة أساسا على هوية مغلقة، ولا بد لهذه الهوية أن تستوعب الهويات الأخرى الأقل حضورا عدديا. حسب خبرتي في جامعة دمشق التي عشت خمس سنوات أو ستا فيها فلم يكن ممكنا أن أمارس في التدريس بها ما مارسته في التدريس الجامعي ببيروت. أولا من حيث النظر إلى الموروث الشعري العربي والتعبير عنه بحرية في قلب أعلى مؤسسات التعليم؛ وهي الجامعة.

كان حراك داخلي نشط في الوسط الثقافي اللبناني خصوصا غير موجود خارج بيروت حسب خبرتي. وهذه - في رأيي- من الأسس التي يجب أن نعمل عليها. وأعتقد أننا في مجلتي "شعر" و"مواقف" ومجلات أخرى، عملنا على تعميق هذه الخصوصية البيروتية، ولذلك كان الغضب عليها كثيرا بقدر ما كنا نحبها كثيرا.

____________

 

* نقلا عن قناة الميادين.

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 1 زائر  على الموقع