من الأرشيف

محمد ولد عبد العزيز ظاهرة لا يمكن تجاهلها!
الخميس, 09 أغسطس 2018 08:07

(حوار مع صحيفة الحرية)

alt

alt

 

 في ذكرى حركة أغسطس 2008

"الحرية": برأيكم، وأنتم القانوني والسياسي، هل من تشخيص للحالة العامة للبلد، وما هي الوصفة التي تقترحون لمعالجة الوضعية السياسية والدستورية؟

محمدٌ ولد إشدو: في رأيي أن وطننا ما يزال يراوح - سياسيا ودستوريا - حيث أصبح غداة الـ 3 أغسطس 05. ذلك أن الجيش الذي تدخليومئذ لأسباب وجيهة، في عز الأزمة، واعدا بإنـهاء الحكم الاستثنائي الفاسد، وبتسليم السلطة للمدنيين عبر انتخابات حرة وشفافة يعود بعدها إلى ثكناتـه مكرما، لم يف بعدُ بوعده. لقد كان الجيش - وما يزال - يحكم البلاد بصورة مباشرة أو من وراء حجاب. 

ولا أعتقد أن من بيننا عاقلا يمكنـه أن يرى في العملية التي بموجبـها تم التواطؤ على فرض رئيس من خارج المشهد السياسي، ما من شأنـه أن يضفي الشرعية على الوضع الذي كان قائما. فكل ما بني على باطل فهو باطل. والصراع الحالي في جوهره صراع مصالح يدور بين أطراف الطبقة السياسية والاجتماعية الحاكمة التي أصابـها التصدع منذ 3/8/05، هدفه الأساسي التغابن في الغنائم وليس الديمقراطية والشرعية أو الحكم الرشيد كما يدعون. ولا يتناقض هذا التشخيص مع وجود وطنيين مخلصين في هذا الطرف أو ذلك؛ لكنـهم سوف ينضوون في نـهاية المطاف تحت راية معسكر الوطن والشعب الرافض لعودة السيد سيدي ولد الشيخ عبد الله إلى السلطة ولاستمرار وجود العسكريين في الحكم.

وهناك ظاهرة الجنرال محمد ولد عبد العزيز وصحبـه. لقد أطلق هذا القائد العسكري وعودا، وأدلى بتصريحات، وقام بمعاينات، واتخذ إجراءات تلامس شغاف قلوب المواطنين المهدورين سدى منذ عشرات السنين، وتعبر عن مصالحهم، لم يسبقه إليها إنس ولا جان منذ العاشر من يوليو 1978! فهل الرجل يعي ما يقول، ويدرك ما يترتب عليه من نتائج، وما يفتح أو يسد من آفاق؟ ظاهرة محمد ولد عبد العزيز لا يمكن تجاهلها والتعامي عنـها؛ بل تجب على كل السياسيين والمحللين مراقبتـها عن كثب.

أما الوصفة التي أقترحُ فهي تلك التي يدعو إليها العقلاء في هذا البلد؛ ألا وهي ضرورة الكف الفوري عن التصعيد والمزايدات الرخيصة، وجلوس جميع الأطراف على مائدة الحوار. وسوف يتوصلون - إن صدقت نياتـهم وكانت المصلحة الوطنية رائدهم - إلى حل مرضي يحمي الوطن ويصون المكاسب ويخفف معاناة الشعب ويضع أسسا أكثر جدية من ذي قبل لإقامة مؤسسات ديمقراطية ملائمة، تعبر عن ميزان القوة الحقيقي، وتعطي دورا معلوما ومطمئنا للمؤسسة العسكرية التي هي درع الوطن والقائمة على شؤونـه منذ ثلاثين سنة! فالتناقضات الحالية - مهما بلغت - هي تناقضات بين الموريتانيين، ولن يوجد لها حل ملائم ومرضي إلا على أيدي الموريتانيين.

"الحرية": الانقلاب الأخير قسم الساحة السياسية إلى مؤيدين للانقلاب، ومناوئين له ينضوون تحت لواء الجبـهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية التي خيارها الوحيد والمرحلي عودة الشرعية الدستورية. كمراقب محايد ما انعكاسات الحالة المذكورة والظروف الاستثنائية المعيشة على الطبقة السياسية ومستقبل الديمقراطية في البلد؟

ولد إشدّو: يبدو أنكم قد أُصِبتم أنتم أيضا بداء انحسار الألوان في أبيض وأسود الذي يروجه المتناحرون على الغنيمة، ولسان حالهم ينشد: "من ليس معنا فهو ضدنا". فالقول بانقسام الساحة السياسية إلى مؤيد للانقلاب ومناوئ له، إنما هو قول هزل، لا يعبر تعبيرا صادقا عن حقيقة الساحة السياسية؛ ذلك أن الذين يؤيدون الانقلاب والذين يعارضونـه لا يمثلون - في الواقع - سوى أقلية "ساحقة" في المجتمع، هي أساسا طرفا المستفيدين من النظام وممثلوهم والطامحون إلى الالتحاق بركبـهم والطامعون في دخول جنتـهم عن طريق التعيين في منصب يتيح الوصول إلى المال العام السائب.. فالغنى. 

أما الأغلبية المسحوقة فهي القوى التي قالت لا للنظام الفاسد قبل – وبعد - 3 من أغسطس 05 و19 من إبريل 07 وقالت لا للحكم العسكري من يوم قيامه في 10  يوليو 1978 إلى يومنا هذا. وهذه الأغلبية التي تشكل خيارا أول للقوى الحية في البلاد، لا يجمع جل مؤيدي الانقلاب وجل معارضيه غير مقتـها ونبذها والعمل على تغييبـها وإقصائها. لأنـها هي الحالمة بالتغيير والعاملة من أجل إنجازه، وصاحبة المصلحة فيه، وهي صاحبة المشروعية، وهي المناوئة الحقيقية لحزب الفساد ورموزه.

بالله عليكِ، كيف يكون المواطن العادي أبعد نظرا من بعض النخب السياسية والصحفية؟ ألم يقل مواطن عاديمعلقا على الحدث:

حاكمْ مَسْلَ هَوْنْ بَيْدِي
امْأيّدْ تَطْيَاحْ سِـــــيدِي

 

وَأقْـــــرَبْ للـــــصّوَابْ
أرَافِــــضْ الانْقِــــــلابْ

 

قد تقولين لي إن هذا الموقف متناقض. وهذا صحيح. إنـه تعبير دقيق عن واقع حي! دليني - من فضلك - على شيء حي في الطبيعة أو في المجتمع لا يخضع لقانون التناقض. وحدها الأشياء والمواقف الميتة المتحجرة البالية هي التي تخلو ظاهريا من التناقض! فالتناقض هو روح الأشياء!

"الحرية": قدمتم في برنامج حوار "تحت الضوء" الذي استضافكم في حلقة ماضية تعريفا وتجذيرا للروح الوطنية طغت عليه اللغة والروح والشاعرية والتراثية، لمن لم يشاهده. ما الآليات التي يجب العمل عليها من أجل ترسيخ الروح الوطنية، ومن خلالها تدعيم الوحدة الوطنية؟

ولد إشدو:  خلق الروح الوطنية يسبق ترسيخها. وقد قلت في ذلك البرنامج إن الروح الوطنية ليست فطرية؛ بل لا بد من خلقها وتنميتـها وترسيخها. وخلق الروح الوطنية يعني تربية الأجيال على الحرية أولا. وعلى الولاء للوطن والدين والإنسان. بدل الولاءات الضيقة الفاسدة المنحطة. ولعل من أهم آليات ذلك: الأسرة، والمدرسة، واللوح، والمسجد، والثقافة، والمحيط. فمن يخلق أسرة وطنية صالحة تتعهد النشء برعما، ويبني مدرسة وطنية صالحة "تبني وتنشئ أنفسا وعقولا" ويخلق وينشر ثقافة وطنية ديمقراطية، ومحيطا وطنيا نقيا من الفساد، سوف تكون لديه أجيال مفعمة بالروح الوطنية. أما إذا أُهمِلَتْ الأسرة وجُوّعَتْ فتفككت وكفرت، وتُرِكَتْ المدرسة لمصيرها، وحوربت الثقافة، وجند المسجد، وتلوث المحيط، وصار الفساد المثل الأعلى، فإنك لن تجني العنب وقد زرعت الشوك!

في مقالة تحت عنوان "لماذا يفشل الموريتانيون حيث نجح الآخرون" ورد ما يلي:... وأدهى من ذلك وأمر كون "هضبة العلم" في بلاد المرابطين والإماميين قد انحطت في ظل العسكر أسفل سافلين؛ فأصبحت - بعد نبذ وهجرة الصالحين- حزمة مناهج خصية، ومؤسسات نخرة دعية، ناءت معظم كراسيها بالغََرِِلِ والأغلف والأرعن، ممن أهّلتـهم ورفعتـهم طقطقات أيديهم في قداس عبادة هبل، ومنكر نعيقهم في موكب تسبيح صَهَِِبّا، أو أواصرهم المتصلة بالدوحة الباغية! فهي إذن أوكار ومنابت للرذيلة... لا يعول عليها في غوائل الزمن، والنـهوض بالأمة والوطن!

وما ظنكم بنابتة ما "كرّرت" نصوص "الألفية" و"خليل" على وبيص النيران، ولا تحفظ شيئا من "الستي" و"الوسيط" و"أمهات لبتيت" ولا إلمام لها بـ"أزوان" إطلاقا، ولم تقتبس شيئا من فكر النـهضة أو تعاليم الأفغاني ومحمد عبده؛ ناهيك عن الثورة الفرنسية أو الفلسفة الألمانية أو أعمال شكسبير وموليير وهيغو وفولتير وروسو الذين لم تسمع بـهم قط! وتلعن نزار قباني وأدونيس ودرويش لكفرهم؟!"1

"الحرية": طبعا ستدعون ضمن الفرقاء السياسيين والقانونيين وحملة الرأي في البلد للأيام التشاورية المزمع عقدها في الأيام القليلة القادمة؛ هلا جعلتمونا في الصورة عما ستقدمونـه خلال هذه الأيام كرؤية لحل الأزمة الخانقة التي تتخبط فيها البلاد، والمشكلات الهيكلية المزمنة التي تعانيها القطاعات الحيوية في البلاد.

ولد إشدّو: وقد لا أُدْعَى أيضا لحضور تلك الأيام. إذ لم يجِدّ جِدّ قومي بعدُ؛ وبالتالي فهم لا يحتاجون إلا إلى من يخوض مع الخائضين!

        أما ما سوف أقدمه، كمساهمة في حل الأزمة - إن دعيت - فسوف يرتكز على الدعوة إلى استئصال سرطان الفساد الذي هو أصل جميع أزماتنا الآنية والمزمنة. هذا بالإضافة إلى بعض الآراء التي سبق عرضها في بعض المناسبات والندوات الوطنية والدولية حول أخطاء الفترة الانتقالية، والتجربة الديمقراطية الموريتانية.

        "الحرية": "الذات هي الذات. لا يمكن التنكر للهوية والثوابت". هذا ما قاله إشدّو حرفيا خلال حديث له عن اللغة العربية ومكانتـها كحاضنة للهوية العربية والإسلامية في البلاد. لماذا تحسبون على تيار ترسيم اللغة العربية وأنتم من الجيل الذي تلقى تعليمه باللغة الفرنسية؟ هل ترون أن التعريب بحد ذاتـه يمكن أن يحقق الذات الوطنية في مجتمع يتعايش فيه أكثر من عرق؟ ألا يعتبر ترسيم اللغة العربية جورا في حق الزنوج؟

ولد إشدّو: أنتِ مخطئة يا سيدتي. فأنا لم أتلق تعليما باللغة الفرنسية؛ بل بالعكس. لقد اختطفتني والدتي من المدرسة الفرنسية بعد انصرام أقل من ثلاثة أشهر من السنة الأولى. وهرّبني أخوالي إلى أعماق البادية ونعوني للإدارة؛ ولكني لا أعتقد وجود علاقة بين نوع التعليم المتلقّى والمطالبة بترسيم اللغة العربية! إذ كم من شبابنا الذين نـهلوا من معارف الغرب بلغاتـه، كافحوا وناضلوا من أجل ترسيم اللغة العربية بوصفها اللغة الوطنية ولغة القرآن واللغة الموحِّدة. ولم يكن ترسيم اللغة العربية عند تلك الأجيال مسألة أكل خبز؛ بل كان مسألة وطنية ودينية عندما كانت المصلحة الشخصية يومها في المرتبة الأخيرة.

        هل التعريب بحد ذاتـه يحقق الذات؟ كلا. فاللغة وعاء. والوعاء الفارغ لا يسمن ولا يغني من جوع. ولعل من أكبر مآسي هذا الوطن وغيره من البلدان العربية التي انتـهجت التعريب المرتجل - كالجزائر مثلا - ذلك الكم الهائل من الأطر "الغربان" الذين يصدق عليهم الوصف المذكور في الاستشهاد الوارد في الجواب على السؤال المتعلق بالروح الوطنية. فالوطن والعربية يعانيان أشد المعاناة من أمثال أولئك. وأما عن سؤالكم عما إذا كان في ترسيم اللغة العربية جور على إخوتنا الزنوج، فإني لا أرى ذلك؛ للأسباب التي بينت آنفا، ولكون هؤلاء الإخوة أنفسهم يعتزون بـهذه اللغة ويدرسونـها ويتكلمون بـها، وكانت هي لغة الديوان عندهم قبل مجيء الاستعمار، وكانوا يكتبون لغاتـهم بالأحرف العربية. والأهم من ذلك كله أنـهم يميزون - والحمد لله - بين اللغة العربية وبين تلك النابتة التي تعمل على تشويه تلك اللغة العصرية الجميلة المباركة من حيث تظن أنـها تخدمها.

"الحرية": تعملون في أكثر من منتدى وجمعية ثقافية. ما هو الدور الذي يجب أن تضطلع بـه النخبة والمثقفون الوطنيون من أجل دفع البلاد إلى بر الأمان، وإخراجها من الحالة الاستثنائية التي تعيش، وإرساء دعائم وأسس دولة القانون والمؤسسات فيها بشكل مستمر؟

ولد إشدّو: إنـه الصدق أولا، والكف عن الارتزاق بالمواقف وبيع الضمير ثانيا، ثم الإكثار من تدبر الحديث الشريف: «اتقوا الله وأجملوا في الطلب» ومن الدعاء التالي: "اللهم أغنني بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك وبفضلك عمن سواك". ومن موجبات استجابة الدعاء في هذا المجال قيام الدولة بإصلاحات من شأنـها تضييق الهوة بين الأغنياء والفقراء عن طريق محاربة الفساد وإعادة توزيع الثروة الوطنية، والنـهوض بالطبقة الوسطى، ورفع الرواتب والأجور حتى تتماشى مع تكاليف الحياة وتكون القوى الحية - ومن ضمنـها النخبة والمثقفون - في منأى عن الحاجة.

"الحرية": تجسد قصائد ولد إشدّو تجربة نضالية شبابية، ثائرة على الأوضاع العامة وطنيا وقوميا. برأي الشاعر الكبير، هل يجب أن يطوع الفن من أجل المجتمع وتوجيهه، وهل الفن للفن، أم الفن للمجتمع؟

ولد إشدّو: "الفن للفن أم الفن للمجتمع" هذا مثار جدل قديم قد يتطلب حسمه وقتا وجهدا لا طاقة لنا بـهما الآن. وفي رأيي أن الفن للمجتمع وللفن معا. إنـها العلاقة بين المضمون والشكل. وهي علاقة جدلية عميقة. فـ"الفن" العاري من الشكل الفني الراقي يمكن أن يمنح كل الأسماء ما عدا اسم "فن". والفن الذي يلبس أبـهى حلله وأجملها دون أن يغوص في وجدان مجتمعه ويمتشق همومه وغضبـه وينثر ثورتـه ومعاناتـه باقات ورد لأعراس الشهداء، وأكاليل غار للأبطال، ودمى بديعة للأطفال، إنما هو ترف وفساد وخيانة وجحود:

 

"حملت شعري على ظهري فأتعبني      ما ذا من الشعر يبقى حين يرتاح؟"

    صدق نزار! ما ذا من الفن يبقى حين يرتاح؟ لا شيء أبدا!

"الحرية": عانيتم شخصيا من السجن الانفرادي، والتواري عن الأنظار، والغربة، وقد جسدتم كل ذلك - حلوه ومره - على صفحات ديوان "أغاني الوطن" ما الذي ألهمكم في تجربتكم الشعرية: صدق العاطفة والشعور، أم الإحساس بالمسؤولية والهم الاجتماعي؟ وما جديدكم في الحقل الأدبي؟

ولد إشدّو: الجواب على معظم هذه الأسئلة لدى النقاد وليس لدي. ولعلمكِ فإن مقالات نقدية عدة قد تناولت ديوان "أغاني الوطن" ويمكن الرجوع إليها! لكن لماذا تحذفين من دائرة الإلهام الوطن والحرية والمرأة والطبيعة؟ وفيما يتعلق بسؤالكم عن الجديد لدي، فلدي جديد نثري كثير صدر منـه حتى الآن "حتى لا نركع مرة أخرى" وسوف تصدر أعمال أخرى قريبا إن شاء الله. أما الشعر فقد شغلني عنـه النثر في الآونة الأخيرة، ولي إليه عودة إن ألحّ. علما بأن إحدى الكاتبات دائبة التوسل إلى الله تدعوه تضرعا وخفية أن ييسر حبسي حتى يتفجر إلهامي وأقول شعرا يرضي ذوقها الجامح.

"الحرية": عندما يذكر الشاعر والمحامي محمدٌ ولد إشدّو، يذكر النضال والاستماتة في التضحية في سبيل الوطن. في عجالة لو سمحتم، قدموا لقرائنا لمحة عن تاريخكم النضالي ضمن حركة الكادحين، وما بعدها.

ولد إشدّو: سيدتي،

 

"لا تطلبي مني حساب حياتي         إن الحديث يطول يا مولاتي"

 

فلنتركه إذن لمناسبة أخرى.              

 

نشر في جريدة "الحرية" بتاريخ 27 /3/ 2009

(من كتاب "أزمة الحكم في موريتانيا)

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. حتى لا نركع مرة أخرى ص 150.

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 9 زوار  على الموقع