رحلـة الشتــاء (ح 10)
الخميس, 20 سبتمبر 2012 09:07

 

بو امديـد

 

altتقع مقاطعة بو امديد على بعد 700 كم من نواكشوط، وهي في الحدود بين ولايتي العصابة وتگانت، وتابعة اليوم من الناحية الإدارية للعصابة. وتجثم قراها الثلاث: الزيره (حي التلاميذ ـ زاوية الشيخ محمد عبد الله بن آده مؤسس البلدة) والمشروع أو الشانتيه (حي أهل الغزواني، وأصبح يؤوي الإدارة أيضا منذ 1967) والدفعه (حي المزارعين من الحراطين؛ وقد أقام به معهم في آخر عمره الشيخ محمد عبد الرحمن بن أحمد قاسم حتى وافته المنية

 حمه الله ومعه بعض المريدين كالشيخ الأخظر) في حضن واديها الجميل الواقع في سفح جبال تگانت. ولا يبعد حي الدفعة الذي أناخوا به كثيرا عن حي المشروع بينما تقع الزيره على بعد ألفين وخمسمائة متر منهما جنوبا. وتطل سلسلة جبال تگانت، خاصة هضاب "خيرني" و"الفرمه" و"طارف الدخله" و"أكشيل" و"منجوره" على الوادي من الشمال والشمال الغربي. بينما ترعاه هضبة "كنديكه" الشهيرة من الغرب ويحرسه "تبادّ" (التوباد) من الشرق.

ولوادي بو امديد ثلاثة روافد: غربي هو "آكنانه" و"اجكره". وشمالي هو "الأغشى". وشمالي شرقي هو "لفطح" (نادر الفيضان لسده، وقد جرف حي المشروع سنة 95). ويغذي لفطح "افريع الكتان" و"انقفنّ" و"جلوه".

ويجري الوادي الذي تصب فيه هذه الروافد شرقا مارا بين حي الزيره حيث دعامة السد الجنوبية وحيي المشروع والدفعة حيث دعامته الشمالية. وكان وادي بو امديد قبل سده يصب بعد أن يتفرع في "أم الخز" و"تاغطافت" (تامشكط).

وحول الوادي نمت غابات من الطلح تحاذيها كثبان فضية ناعمة تسلق بعضها سفوح سلسلة الجبال تلك وقعد بعض دون ذلك.. ويعطي الوادي أكله في هذا الفصل قمحا وشعيرا وذرة وقطاني وغيرها. إلا أن المساحة المزروعة منه هذه السنة كانت أقل بسبب انهيار سده الذي تشرف شركة هذه الأيام على إعادة بنائه:

 

هـذه قبلتي تبـاد وغربـي** تبدو گنديگه من وراء الكثيـب
وشمالي خيرنّي للخير تـحدو ** هضبات انتشماط صوب الجنوب
وأبو امديد جاثـم بقــراه ** في حمى واده الجميـل الخصيب
يبسم البـدر ضاحكا في ذراه ** عن أقاح.. فهل رأيـت حبيبي؟
فإذا بالربى مـروج لجيــن ** سابحـات في لجة من طيــب
حولها سندس من الطلح يزهو ** بالعلندى والزهـر والخـروب
تلكم "الزيره" كم بها قـد تغنى ** في الورى كل شاعـر موهوب
قد سبى الشاعر الكبير هواها ** وهداها في أزمـن التعريـب
وهناك "المشروع" لم أر منـه ** غير صهريجه وشخص الرقيب!
وهنا الدفعه في طلاب الأماني **وتباشير الانعـــتاق القريـب
أهلها السمر يسكنون جواري ** بلسما رغم ما بهم من شحوب
والتلاميذ يزرعون السجايـا ** ويربون واجلات القلــوب
يتلقون من ينيب إليهـــم ** من عباد الرحمن بالترحيــب
قيما سنها ابن آدَ بحـــزم ** ورعاها من بعـدُ كل نجيـب

 

زعموا أنهم هنـا قد نفوني! ** كيف أنفى في موطني المحبوب؟
ما لهم بالبلاد علـم ولا بي ** ليس مثلي هاهنا بغريــب!

(علم اليوم في منتصف شهر مارس 2004 من السيد محمد عبد الله بن محمد محمود بن الشيخ أحمد بوجود قصيدة، على غرار قصيدته تقرظها، من شعر السيد محمد عبد الله بن الشيخ بن زيدان، هذه نبذة منها:

أهزار يشدو بروض خصيـب؟ ** أم أهازيج شاعر موهـوب؟
بات يشكو إلى الطبيعة ظلمـا ** حين لم يلق غيرها من مجيب
إنها لم تزل تشاطرنـا فــي ** حالنا من نضارة وشحـوب
نرتمي في أحضانهـا نتسلـى ** عن هموم في قطرنا المغلـوب

 

كيف يا عندليب تصدح جهرا ** وعُقاب يرعاك فوق الكثيب؟
أيها العندليب غرد رويــدا ** لا تخاطر بصوتك المحبوب).

أقامت فرنسا في بعض أيامها مركزا إداريا في بو امديد. لكن مؤسس الحاضرة هو الشيخ محمد عبد الله بن آده البوصادي (مريد الشيخ التراد) الذي هاجر إليها من أفلّه، وجعلها قاعدة زاويته القادرية، بعد أن أخرجه أخوه في الطريقة - وفي الشيخ كذلك-  الشيخ محمد المجتبى بن الطالب مختار وكان شيخا عاما للقبيلة وشيخا صوفيا أيضا في أفلّه (خاصة أگمون ولفدا والمرفق). ومن أسباب نزوح الشيخ محمد عبد الله بن آده إلى بو امديد بالذات كونه موطن أهل آب الذين اتبعوه وآووه ونصروه.

كان الشيخ ولد آده - رحمه الله- نموذجا للإنسان الصحراوي المؤمن الذي لا يقهر. ولما ورد بو امديد كان لا يملك من متاع الدنيا غير عصاه ومرقعته. وكانت البلدة يومها واديا غير ذي زرع لا يتجاوز مخزون بئرها مد ماء لليوم، ومن هنا جاء اسمها. وفي أمد وجيز - حسبه البعض سنة- حولها هو وتلاميذه المتقشفون العاملون، العازفون عن الدنيا ولذاتها إلى جنة: سدوا الوادي وزرعوه فأنتجوا ما يفيض عن حاجيات المنطقة من الحبوب، ازدهرت على أيديهم تربية كافة أنواع المواشي والأنعام، نظموا شبكة تجارية نشطة ربطت أعماق الصحراء بأدغال إفريقيا، وجعلوا البلدة قبلة للمساكين وذوي الحاجات.

ومن تجليات عبقرية هذا الشيخ إرادته التي لا تلين في قهر الطبيعة والفقر بالعمل المنظم والبذل، ومهارته في سبر مواهب مريديه من الجنسين وشحذ طاقاتهم فيما خلقوا له، واندماجه معهم في العمل والعيش والملبس، وقدرته الخارقة على جذب أفئدة الناس وتربية مريديه وشحنهم بروح البذل ونكران الذات والعزوف عن الدنيا (يعملون بدون كلل، يلبسون المرقعات ـ "الدرباله" يأكلون "العيش الحافي" رغم ما لديهم من أنعام وآبار دهن، لا يتزوجون ولا يظهرون أدنى ميل إلى أهلهم وذويهم لما في ذلك من مخالفة لما عاهدوا الله عليه!).

ورغم احتدام صراع جديد لم يكن في الحسبان بين زاوية الشيخ ولد آده وزاوية الغظف (أهل الشيخ الغزواني) التي نقلت مركزها من آدرار إلى موطنها الأصلي بو امديد.. وكان النزاع على ملكية الأرض لب هذا الصراع. إلا أن التعايش بين القطبين طغى على تنافس نبيل ظل سببا من أسباب التنمية والازدهار! لقد أدرك الشيخ محمد عبد الله بن آده آخر عهد الشيخ الغزواني بن الشيخ محمد محمود بغفاره وعاصر أخاه محمد محمود (لبث في الخلافة ثلاث سنوات) ثم الشيخ محمد أحمد فكانا ندين، سيدين، فرسي رهان. ومع ذلك قال مبتغو الخير فيهما إن الشيخ محمد أحمد يعطيك الذي أنت سائله. والشيخ محمد عبد الله يعطيك الذي أنت سائله، وضعف أو أضعاف الذي أنت سائله!

ثم انقضت تلك السنون وأهلها   فكأنها وكأنهم أحــلام!

 

.. وهاجر الشيخ محمد عبد الله ولد آده إلى الحرمين الشريفين حيث جاور ولحق بأخيه في الطريقة وخصمه الأسبق الشيخ المجتبى.. فظل تلاميذه بقيادة الشيخ عبد الرحمن بن أحمد قاسم يحافظون على الزاوية ويسيرون شؤونها على أحسن وجه في نظام بديع له حكومته ومؤسساته الثابتة ومنظومة قيمه الروحية وأخلاقه. وما يزالون رغم ما حل بهم من وهن (بصفتهم مجتمعا راكدا) يحافظون على عهد الشيخ المؤسس.‍

* * *

حاول التلاميذ الاتصال بالوافدين الجدد عن طريق الإدارة (سمعوا فيما بعد أن التلاميذ طلبوا من الحاكم الإذن لهم بإيصال نحيرة إليهم). ولكن الإدارة واجهتهم بالرفض البات لجميع أنواع الاتصال وكرم الضيافة. ورغم ذلك قاموا بأكثر مما يجب، ووفروا لهم كل ما عسر وجوده كالحليب مثلا. وظلوا يحيطونهم من بعد بالرعاية والعناية إلى أن غادروا حماهم المنيع.. ولم يقصر سكان الدفعة أيضا رغم قلة ما بأيديهم.

وحبذا الباقون.. لكنهم      لم تأتهم في شأننا الآخره.

في الحلقة القادمة: الكهف - السجن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الصورة للحي القديم  ببو امديد، وهي منقولة عن صحيفة "الوسط" اللبنانية.

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 10 زوار  على الموقع