| إرادة الشعب تنتصر: التونسيون يمنحون رئيسهم شرعية واسعة |
| الجمعة, 18 أكتوبر 2019 08:08 |
|
لطفي العبيدي*
الرسالة الانتخابية مدوية وواضحة تقضي بأن يندثر النظام السياسي القديم ويُكنس بإرادة شعبية شبابية؛ وهو الذي رغبت مافيا الفساد من خلاله، في التسلل من جديد إلى الحكم، والقضاء على المسار الديمقراطي، بدعم قوى خارجية ومال سياسي فاسد في الداخل، ممن يرفضون الديمقراطية التي فُرضت عليهم فرضا، وغُبنوا بهذا المشروع التحرري، وبواقعية سياسية مغايرة لأفكارهم التقليدية، وما تربوا عليه طيلة عقود. فهُم لم يعرفوا العدل واحترام القانون والشفافية في تسيير الدولة، على نحو مركب المنفعة والمصالح والانتهازية، والتموقع ضمن معسكر الفساد السياسي والمالي والإعلامي، ومناصرة دولة الفئات المتنفذة والإقطاعية السياسية، وواجهاتها الإعلامية التي تلهث وراء الارتزاق والتكسب. تونس تتحرر من جديد بوجود الأحرار والصادقين من أبناء هذا الوطن العزيز، صفحة مشرقة في تاريخ البلاد، يفتخر بها كل من دعم المشروع الوطني الديمقراطي التحرري، وآمن بسلطة القيم، ومشروعية الأخلاق الإنسانية، ورَصَد الجملة السياسية المثقفة، ولم يرتهن لأقطاب الفساد بمختلف وجوههم. نعم، انتصرت الثورة وضُخت فيها دماء جديدة، عبر الانتصار الساحق لقيس سعّيد بشرعية شعبية واسعة تجاوزت 70٪ أي ما يعادل 4 ملايين ناخب من مختلف الفئات العمرية والشرائح الاجتماعية، وإن كان أغلبهم من الشباب المتعلم والنخب الواعية والمثقفة. ويبدو أن هذه النسبة الكبيرة التي صوتت بقوة وإصرار، اختارت من يمتلك رصيدا محترما من الثقافة السياسية والإلمام بالقانون وشروط الحكم العادل، ويجهر بالفكرة السياسية الواضحة والخطاب المرتجل والراقي، ويستبطن أخلاق الإنسان، ورجحت كفة من يختزن مشروعا وطنيا صادقا، عبّر عنه بسردية فصيحة ومثقفة، بعيدا عن كل الشبهات، ضد مترشح امتهن المتاجرة بفقر فئة من المحرومين والبسطاء، وأعمل فكرة الزبونية لمقايضتهم، واستغلال أمية معظمهم، عبر جمعية خيرية توزع عليهم مساعدات غذائية، مقابل أصواتهم الانتخابية. وهي صورة للاستعباد والتخلف السياسي، زادتها قبحا شبهات الفساد المالي والتهرب الضريبي وتبييض الأموال، والتعامل مع شركة أجنبية ملك صهيوني عمل سابقا في الموساد؛ وذلك لتلميع صورته وتقديمه كشخص قادر على بناء علاقات خارجية مع رؤساء دول كبرى.
وليس عسيرا إدراك أن منح الحرية للشعوب هو السور الحقيقي للأوطان، و"القضاء المستقل خير من ألف دستور" هكذا التقط التونسيون الرسالة. ومن واقعية سياسية واجتماعية واعية حقق قيس سعيد اكتساحا انتخابيا بملايين الأصوات، لم تستطع جميع المكونات السياسية التي ترشحت للبرلمان أن تُحصل نصفها، على نحو سقوط مدو للمنظومة الفاسدة وكنسِ "السيستم" والانتصار للمسار الثوري الديمقراطي. ولم يكن ذلك ليتيسر لولا إرادة الشعب التي انتصرت، واهتدت إلى أن "الحق لا ينقلب باطلا لاختلاف الناس فيه، ولا الباطل يصير حقا لاتفاق الناس عليه". والخزان الانتخابي الذي حسم المسألة بنصر ساحق هم الشباب؛ خاصة المتخرجين من الجامعة والمعطلين عن العمل والحركة الطلابية النشيطة، جميعهم راكموا الجهود التطوعية بإمكانيات ذاتية ضعيفة وشبه معدومة، واختاروا مَن دافع بقوة في المناظرة التلفزيونية عن ثورة الشباب، وعن حرية التفكير مدخلا لحرية التعبير، وقدم رؤى صادقة وجدية تتعلق بالصحة والتعليم وأسر الشهداء والجرحى، وكان صارما في اعتبار التعامل مع إسرائيل "خيانة عظمى" ومعتزا بشعب فلسطين الأبي. لقد كان الأستاذ سعيد معبرا عن طموحات الشعب ومَطالب الشباب الثائر، وفيا لدماء الشهداء والجرحى، الذين شاركوا في ثورة الكرامة والحرية. واعتبر أنه ليس في منافسة مع أحد وإنما قدم مشروعا للشعب التونسي، عبر حملات تفسيرية في شكل نقاشات متبادلة بعيدا عن وسائل الإعلام والتجاذبات السياسية، واستمع للمبادرات التشريعية ولأفكار الشباب الذين صاغوا مطالبهم وقدموا مشاريعهم التي تحتاج منحهم آليات قانونية لتطبيقها.
وعبر منطلقات من هذا النوع وغيره متعددة ومختلفة، تأصيلا وتعصيرا، نازعته تفكيرا وتعبيرا، وصالحته فهما وتأويلا، وتصالحت معه مرجعية وسلطة، وأصلحته نظرا وعملا، كانت النتيجة ثورة في إطار الدستور والشرعية، صاغها من تشوف للحرية والتغيير على نحو ما ردد الرئيس الفائز، بأن البعد لهذه الثورة التونسية هو بعد إنساني "نريد أن نبني بقدراتنا تونس جديدة" التي صاح من أجلها الشعب: "نحن نعني ما نقول، وليطمئن الجميع، لأننا نعرف حجم المسؤولية، وما معنى الدولة التي يجب أن تستمر".. "سنتحمل المسؤولية بالإخلاص والعزيمة والثبات نفسه" و"سنعمل معا من أجل وطننا، ومن أجل القضايا العادلة، انتهى عهد الوصاية". انتصار الأستاذ قيس سعيد يبعث رسالة لجميع القوى السياسية والحزبية المنغلقة أيديولوجيا، التي تعاني بشكل متفاقم من التحجر الفكري والتعصب الزعاماتي "الكلياني" الذي يدعي امتلاك الحقيقة والاحتفاظ بأسرارها. ومن المؤكد أن شباب الثورة وقطاعات واسعة ومتفاوتة الوزن من المصوتين له وجدوا أنفسهم فيما ينطق به ورأوا فيه مطالبهم وما يتوقون إليه عبر كل هذه السنين. استبطن معاناتهم وحرمانهم، وعبر عن تطلعاتهم بضرورة انتهاج سياسة لفائدة الشعب، وبناء تاريخ جديد ومغاير، جوهره تحقيق أهداف الثورة واستعادة الاعتزاز بالوطن. ٭ كاتب تونسي (عن "القدس العربي") |
