الشيخ اعلي الشيخ ولد اممه.. ذلك الطود الأشم الراسخ
السبت, 27 أغسطس 2016 07:17

 

كتب هذا المقال تأبينا للفقيد العظيم، ونعيد نشره في الذكرى الثالثة لرحيله   

altتعود علاقتي بـ"آدرار" حيث سطعت أنوار دائرة الشيخ اعلي الشيخ ولد اممه رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، إلى منتصف سنة 1964. وفيها بدأت صِلاتي بجميع شرفاء تلك الولاية المنيعة وعموم أهلها الأفاضل.  خاصة أهل الشيخ بونَ انّ ولد الشيخ الطالب اخياروأهل اممه.

كنت قد تعرفت قبلُ على الشيخ بونَ انّ ولد الشيخ الطالب اخيار -رحمه الله- في مدينة سان لويس عاصمة موريتانيا يومئذ، فنشأت بيننا صداقة وود ومحبة؛ وذلك عن طريق اثنين من أبنائه هما الشيخ الطالب اخيار الذي عمل بوزارة العدل قبل أن ينضم إلى بعثة القضاة، والشيخ محمد ماء العينين الذي كان موظفا في إحدى الوزارات. وعندما جئت إلى أطار صرت بمثابة ابنه، وكنت أقوم له -رغم مواقفي اليسارية- بتحرير رسائله إلى بعض كبار قادة إسبانيا.. وتجاورنا في "لبريزة" حيث كنت أسكن دار الشريف سيدي محمد ولد القاسم قبالة دار أهل الشيخ بونَ انّ.

وتوطدت أواصر تلك الصداقة وتعززت أكثر فأكثر لمّا عرفت ابن عم وصهر تلك الأسرة الكريمة الشيخ أجودنا ولد المحفوظ الذي أصبح لي أخا وصديقا وسندا ومأوى رحمهم الله جميعا وأسكنهم فسيح جناته؛ إنه هو السميع المجيب.

أما أسرة أهل اممه فقد اقتصرت معرفتي معها في البداية على أهل الشيخ محمد بوي، ونعم الأهل. فنمتْ بيني وبينهم صداقة عززتها صلتي وصلتهم بأهل ودادي؛ وخاصة صديقي النقابي الأستاذ الأشياخ ولد ودادي الذي تقاسمت معه بعد ذلك بسنتين المنفى والحبس في انبيكه وبو امديد وتجكجة ونواكشوط.

وقد شكلت هذه العلاقات خلفية وقوفي لاحقا مع كل من اجيه ولد ودادي واشبيه ولد الشيخ بونَ انّ في محنتيهما. ولم أحظ بالتعرف على الشيخ اعلى الشيخ ولد اممه إلا بعد ذلك بكثير. وتحديدا في شتاء 1988.

لقد شاء الله أن أتوجه في تلك السنة إلى أطار في مهمة تتعلق بمهنتي صحبة صديق فاضل من مريدي الشيخ هو السيد محمد سالم ولد مولود رحمه الله. فدعاني ونحن نستعد للهبوط في مطار أطار لزيارة الشيخ اعلي الشيخ والنزول في دائرته. وقد قبلت، رغم ما لدي من مشاغل، وما كنت أسمعه عن صعوبة مقابلة الشيخ، واستحالة مغادرة الدائرة دون إذنه الذي قد لا يتأتى بسهولة.. طالما أن الزائر في قبضة المزور.

وفي صبيحة اليوم الموالي استقبلنا الشيخ ضحى في فضاء الدائرة، غير بعيد من بابها، ضمن الوفود القادمة من كل حدب وصوب. قدمني إليه السيد محمد سالم ولد مولود فرحب بي وتبادل معي حديثا لطيفا دعا لي فيه بالخير وأخذ بين يديه الكريمتين بدلة المحاماة، التي أرتديها منذ سنة دون إجماع أهل الحقل، "فحجّب" فيها ودعا لها بنصر لم نخذل بعده قط! ثم أمر أن نكون في مجلس ضيوفه المقربين الذين كان من بينهم يومها السيد بلاه ولد مكيه وكان مسؤولا كبيرا في الدولة. فمكثنا في الدائرة أياما إلى أن دعينا مساء للصعود إلى خيمة الشيخ فوق ظهر الدار فاستقبلنا فرادى وودعنا ودعا لنا، فعدنا مباشرة إلى نواكشوط. ولم يشأ الله أن ألتقي بالشيخ ثانية بسبب انغماسي في أتون الحياة الوطنية الملتهب على مر العقود الماضية، ومرض المرحوم محمد سالم ولد مولود الذي أقعده نهائيا مع الأسف الشديد.

ومن ذلك اليوم الذي التقيت فيه بالشيخ اعلي الشيخ وأنا أكن له الود الصادق والتقدير الفائق والاحترام؛ وأحدث عنه بالخير، مؤكدا على ما يتميز به من خصال لعل أبرزها هذه التي فاق فيها الجميع وهي:

 

* الجود والإنفاق.

إن ما رأيته بعيني في الدائرة إبان مقامي اليتيم بها، وهو غيض من فيض يعرفه القاصي قبل الداني، لدليل على أن قطبها ظاهرة لا يشبهها إلا ما سارت به الركبان عن الشيخ بابه ولد الشيخ سيديا والشيخ أحمدُ بنب والشيخ ماء العينين وأمثالهم؛ إذ لتخال أن ابن المبارك ولد يمين وولد الشيخ المعلوم إنما يمدحانه ويصفانه في روائعهما في هؤلاء الشيوخ!

 

* التواضع والزهد.

إن الشيخ الذي تأوي إليه أفئدة الناس من كل حدب وصوب يكاد يختلط عليك ويتماهى مع أبسط مريديه لولا المهابة والوقار. كان مثلهم تماما: أسمر اللون، نحيف الجسم، يرتدي ثوبا ولثاما عاديين، ويقوم بخدمة ضيوف الدائرة والمبتغين خيرها بيديه الكريمتين ويشرف على تحضير طعامهم من نحر وذبح وطبخ وشراب صباح مساء. وعندما يطمئن إلى أنه أدى أمانته وعمّ خير الله على يده الجميع، ينسحب بهدوء إلى خيمته المتواضعة القائمة فوق ظهر الدائرة، ويتناول قليلا من طعام يبالغ العارفون في تواضعه وتقشفه، فيصدق فيه قول القائل:

وامع ذا من فعل إعلي      واستطفيلَ، واتفكريشه

ناگظ وامشنكر بيه أل      غابنت وذن في العيشه

 

* الاستقامة والصبروالحكمة.

في زمن العولمة والطفرة طغى المال والسلطة على القيم والقمم فاستباحها بعض العسكر وداستها فلول الغجر! ولم ينج من هول ذلك الطوفان المقيت إلا من رحم ربك. ولكن الشيخ اعلي الشيخ ظل شامخا وراسخا كالطود الأشم. حاولوا تصنيفه "مع" أو "ضد" فباءت محاولاتهم بالفشل.. وأولوا وبدلوا هذا القول أو ذاك الفعل الصادر عن ابن أو أخ أو مريد، فكذبتهم شواهد الامتحان! وبقي "الشيه" مُلكا للجميع (غوث للجميع، وشيخ للجميع، وسند للجميع وسراج ينير الجميع) ويملك الجميع..  لا تهزه العواصف التي هزت وأزت غيره... ويتفنن - في أحلك وأقسى الظروف- في رخو وشد الشعرة التي تصله بالجميع على مسافة متساوية أو متقاربة لحد لا يشعر معه أي كان بالغبن أو الإقصاء. وهذه - في نظري- أعظم خلال اعلي الشيخ، وإن شك فيها وجادل بعض من فاتهم التحلي بها!

        فرحم الله فقيد الأمة الموريتانية وألهم فيه الصبر والسلوان، وبارك في خلفه وذويه الكرام. وإنا لله وإنا إليه راجعون.

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 2 زوار  على الموقع