من تاريخ الكادحين (الحلقة 18)
الجمعة, 11 يونيو 2021 08:14

 

بقلم أحمد سالم المختار شداد    

altعودة إلى أگجوجت ومغامرة أخرى

وضعية كارثية

رغم أن السالك ولد الحاج المختار كان يعيش في السرية، إلا أن مغادرته عرّضتنا لمشكلات حقيقية من أهمها معضل التأطير داخل هياكلنا. كان علي أن أضمن القيام بهذه المهمة. كان علي أيضا أن أضمن تحرير نشريتنا المحلية: الشبيبة العاملة. هذا النوع من النشريات نصحت به القيادة. إنه يتمثل في سلسلة من المقالات مكتوبة باليد على ورق على شكل دورية كثيرا ما تكون أسبوعية أو شهرية. ويوكل التصميم النهائي إلى الشاب البخاري ولد المؤمل اعتبارا لحسن خطه.

 توجد النشريات في كل المدن الكبيرة تقريبا. وقد أنشأ بعض المناضلين نشريات مماثلة في العديد من المناطق الريفية. تم، بعد فترة وجيزة، توقيف وتحويل البخاري إلى سجن بيله، وهو ما خلق لنا مشكلة كبيرة. والحقيقة أن البخاري كان آخر النشطاء القادرين على إسماع كلمتنا في المهرجانات التي تعقدها السلطات لجلد الحركة. كانت تلك المهرجانات عبارة عن كمائن تنصبها السلطات لتجر أفضل مناضلينا للكلام بغية توقيفهم وسجنهم في بيله طبقا لمخطط وزير الداخلية. أما تكتيكنا نحن فيكمن في أن لا نترك لهم الميدان شاغرا في حال من الأحوال للترويج لدعاياتهم ضدنا؛ وبالتالي فالمواجهة كانت حتمية. البلاد كلها كانت تعيش جو حرب أهلية حقيقية.

كان سَجن البخاري بمثابة نزع تام لآخر أسلحتنا. ربما من أجل اختبار وسائلنا، قامت سلطات أگجوجت، في اليوم الموالي لتوقيف البخاري، ببرمجة مهرجان جديد. كان علينا أن نمعن في البحث العاجل عن حل بديل. استدعيتُ الشاب المرحوم أحمد ولد سيدي (ابن عم البخاري) فشرحت له، باختصار، الوضعية الكارثية التي نعيش. وقد وُضعت شجاعة أحمد ولد سيدي، كما هو حال ابن عمه الطالب اخيار، على المحك. الطالب أخيار، البالغ 12 سنة أو لا يكاد، وأحمد ولد سيدي - طيب الله ثراه- البالغ حوالي 15 سنة، اعتُقلا، ذات مرة، حيث تعرضا فى انواكشوط لتعذيب غير إنساني؛ فالمغفور له ولد سيدي اقتُلعت أظافره بكلاّبة، وكان الطالب اخيار أصغر معتقل. لذلك فإن عددا من بيانات منظمة العفو الدولية، المولودة للتو في لندن، تحدثت عن حالتهما خلال زيارة لها إلى انواكشوط، منددة بعمليات التعذيب في السجون الموريتانية. أما المرحوم أحمد ولد سيدي فتوفي بعد سنوات قليلة بسبب سرطان لا يُستبعد أن تكون لعمليات التعذيب التي تعرض لها علاقة به. كان طالبا في السنة الأولى من مدرسة تكوين المعلمين بانواكشوط.

 

الحل الصعب

فصّلتُ للرفيق أحمد ولد سيدي - جعل الله جنة الخلد مأواه- خطة عملي الهادفة إلى إبقاء المبادرة بشأن الأحداث بين أيدينا. شرحت له أولا أننا لسنا بحاجة له في العمل السري. وأن عليه أن يستعد للمبيت في سجن بيله خلال الـ 24 ساعة الموالية. المهرجان الذي يراد منه أن يتكلم خلاله، دعا إليه وجيه شهير يأتي دوره في تسيير الشؤون السياسية في المرتبة الثانية بعد دور الحاكم، وحتى إنه يسبق دور أمين حزب الشعب الموريتاني (PPM).يتعلق الأمر بمحمد ولد محمد فال - أطال الله عمره- المعروف بـ"آزرام" بسبب لونه الأسود الداكن رغم أنه ينتمي لأسرة نبيلة من قبيلة كنته.

كان "آزرام" - فضلا عن كونه قائدا للمليشيات- رئيسا لقسم الحزب الحاكم في حي أدباي: أهم الأحياء العريقة في المدينة. شرحت لولد سيدي - رحمه الله- أن عليه أن يفعل المستحيل ليتجاوز حياءه ويفاجئ الكل بـ"خطاب عن المنهج" مثل الفيلسوف الفرنسي ديكارت. قلت له إن "عليه أن يهز ديكارت في قبره". نجاح هذه المرحلة سيمكننا بسهولة من تنفيذ المرحلة الموالية. قلت له موضحا: "إذا تمكنت من جذب تعاطف الجمهور الحاضر ومن تأليبهم ضد السلطات، سيكون من الصعب عليها توقيفك على الفور. يجب استغلال وقت المداخلات الموالية للاختفاء". كنت أتوقع أنه بعد مثل هذا النجاح، سيكون احتمال إعطاء السلطات أمرا بتوقيفه خلال المهرجان ضعيفا؛ خاصة في حال تمكننا من جعل المهرجان في صالحنا. بما أنني غير معروف في العلن، فقد حضرت مهرجان "آزرام" فور انعقاده. كان الأمر على ما يرام. جرت الأمور على أحسن وجه. نجحت المراحل الأولى وعلينا البدء في المرحلة الأسمى. بعد استحسان الخطاب الرسمي، تحول المهرجان، مع مداخلة أحمد ولد سيدي، إلى تجمع للمعارضة.

 

الوجيه الحكيم

المرحلة القادمة تتمثل في قيام أحمد، المطلوب بجنون، بزيارة "آزرام" في منزله! شرحت لأحمد أن "آزرام" لا يعرف عنا أي شيء. فأنا على قناعة أنه يؤمن كثيرا بالخطاب الرسمي المعادي لنا. قلت لأحمد: "زيارتك لا تهدف إلى إقناعه، وإنما إلى كسر حماسه ولو مؤقتا؛ أولا من خلال وقع المفاجأة الذي ستحدثه الزيارة، وثانيا من خلال إتحافه برأي حولنا مختلف جذريا عن الرأي الذي يروج له وكلاء النظام". أعطيته تفاصيل عن مفاصل الخطاب. الحركة الوطنية الديمقراطية كانت تدعو حينها إلى سياسة حوار على شكل برنامج من خمس نقاط. كان الشاب، مسبقا، مشبعا بالفكرة. تتمحور تلك النقاط حول الحريات السياسية، والإصلاحات الاقتصادية، وإصلاح التعليم، ومساندة الشعب الصحراوي في حرب التحرير من قبضة الاستعمار الإسباني. كان عليه أيضا أن يخبر "آزرام" بأن حركتنا تحوز دعما كبيرا على المستويين الوطني والدولي، وأن من بين مناصريها علماء أجلاء وشخصيات دينية بارزة مثل المرحوم محمد سالم ولد عدود الذي رفض باستمرار أن يتخذ موقفا ضدنا. كان على أحمد ولد سيدي يكون مرتب الشعر، حسن الهندام. وأخيرا شرحت له أننا سنكون أمام احتمالين: الأول، الأقل ورودا في نظري، أن يبلغ عنه "آزرام" بالفور ويقوم بإجراءات اعتقاله. في هذه الحالة سيرتكب خطأ شنيعا بتوقيفه لشخص ينحدر من هذه المنطقة زاره في منزله وهو لا يطلب غير النقاش معه في شؤون بلادهما. قلت له إن احتمال أن يتصرف "آزرام" بهذا الشكل ضعيف بسبب انتمائه إلى قبيلة كنته العريقة المعروفة بالتعلق بقيم الفضل والشهامة. الاحتمال الثاني مفصل فى مراحله.

علمنا أن المدينة؛ بدءا بمنزل أهل أحمد حيث لا يوجد هو إلا نادرا، أخضعت لتفتيش دقيق بحثا عنه.

بما أنني أزور بانتظام أسرة أهل هيين، في منزل زينب، غير بعيد من مسكن "آزرام" فإنني أعرف شيئا ما برامجه الاعتيادية؛ فعند الساعة الثامنة مساء، بعد صلاة المغرب، يتناول بهدوء، مع أصدقائه شايا في صالون بمنزله. كثيرا ما أرى ماء السخانة يغلي خارج المنزل على فرن مليء بالجمر.

أوكلتُ إلى شخص مهمة مراقبة المشهد وإحاطتي علما بأدنى تطور. أظن أنني أوكلت الأمر إلى الطالب اخيار أو قريبه محمد ولد الخرشي.

مرة أخرى، جرت الأمور على أحسن وجه. عندما وصل أحمد إلى باب الصالون، كان "آزرام" ينظر إلى الأسفل، مستغرقا في التفكير، وقد شد رأسه بيديه. فاختفاء أحمد أثار قلقه الشديد. قال الضيف الغريب: "السلام عليكم". رفع "آزرام" رأسه فجأة، رادا: "وعليكم السلام". ثم سأل أحمد من هو وما الهدف من زيارته. كان كل التفاصيل متوقعا ومبرمجا. كشف أحمد عن هويته، مضيفا: "أنا فلان الذي تكلم في المهرجان، وقيل لي إنكم تبحثون عني. أريد أن أعرف لماذا". كان ينتظر ردا من "آزرام" دون أن يحول النظر عنه. لقد أذهلته المفاجأة، فسكت برهة قبل أن يقول بصعوبة تحت وقع التأثر: "يا بني، مرحبا بك في منزلي. أخبرك بأن السلطات، خاصة الحاكم، كلفني بأن لا أنام هذا المساء قبل إخراجك من عشك وتوقيفك. أقول لك صراحة إن شجاعتك وحدها في الارتماء في الخطر غيرت تماما رأيي في رفاقك". ثم أردف يقول: "يا بني، خذ مكانك لتتناول معنا الشاي". ثم انطلق النقاش. لم يتوقف "آزرام" عن طرح الأسئلة حول ظاهرة الكادحين. وكان أحمد يجيب بتؤدة. خلص أحمد إلى المطالبة بحوار بين أبناء البلد لحل مجمل مشكلاته سويا في جو من السلم المدني والوئام الوطني، طبقا للعريضة التي وضعتها - وتُدافع عنها- الحركة. أعطى "آزرام" موافقته على هذه الخلاصة. وانتهى النقاش في وقت متأخر من الليل.

قبل أن يتفرقا طلب "آزرام" من أحمد أن لا يذهب مباشرة إلى أهله، وأن يعطيه الوقت ليرى الحاكم الذي كان قد كلفه بأن لا ينام قبل إخراجه من عشه وتوقيفه. "عليّ أن أوضح له المعطى الجديد، وأن أنصحه بأن يوقف كل المحاولات الهادفة إلى توقيفك" (يقول "آزرام").

في اليوم الموالي، انتشرت بسرعة البرق انعكاسات القنبلة السياسية وأسهب الناس في نقاشها والتعليق عليها لصالحنا. وهكذا تعرضت حملة وزارة الداخلية لنكستها الأولى في أگجوجت. وقد منحتنا جريدة "صيحة المظلوم" جائزة "أفضل استغلال لتناقضات النظام" وهي شِق مهم من إستراتيجيتنا السياسية.

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 10 زوار  على الموقع