| أدونيس: هذا هو اسمي (ح 11)* |
| الجمعة, 15 يونيو 2018 07:24 |
|
وصول ماكرون إلى رئاسة فرنسا علامة كبرى على تحول جذري
أدونيس: الحقيقة أني لم أقل مرة واحدة إنني استنفدت بيروت أو استنفدتني؛ إنما قلت: استنفدت إمكانيات عملي الآن في خدمة بيروت. ولأنني استنفدت إمكانيات العمل لأسباب البيت ومشكلات العيش وصعوبات تستطيع أن تقدرها، لأنك عانيت وعانينا جميعا. قلت: ما دمت لم أعد قادرا على ممارسة أي نشاط يفيد هنا فلأحاول القيام بنشاط في مكان آخر. هذا هو بالأساس ما دفعني إلى ترك بيروت. وكان من الطبيعي والمنتظر أن أذهب إلى واشنطن أو انيويورك، لأن لي هناك الكثير من الأصدقاء يساعدونني. وربما لو ذهبت إلى واشنطن أو انيويورك لتغير مسار حياتي أيضا بشكل أو آخر، لكني بالمصادفة ذهبت إلى باريس للعمل مع صديق تونسي أقنعني بالاستقرار في باريس التي يجب أن أعترف بأنها أعطتني كل ما كنت أطلبه ورحبت بي وحضنتني وفتحت لي آفاق العالم كله، وأنا مدين بالكثير لباريس. لكن هذا دون أن أتبنى – وهذه ميزة لباريس- أية سياسة من سياساتها. بيار: كيف توفق بين علاقتك بالغرب – من خلال باريس- كمنهل حضاري ومعرفي وبين الغرب بمعناه الاستعماري من وجهة نظرنا في هذه المنطقة من العالم؟ أدونيس: هذه أهمية الغرب وثورته الحقيقية التي لن نستطيع أن نصل إليها. هناك مؤسسات – أتكلم الآن عن فرنسا- تظل هي هي، تفعل فعلها المدني وفعلها الثقافي، سواء أكان الاشتراكيون هم الذين يحكمون، أم الديغوليون أم اليمين المتطرف، لن يتغير أي شيء في سير المؤسسة؛ لا في الجامعة، ولا في المدرسة، ولا في المستشفى، ولا في الضمان الاجتماعي، ولا على أي مستوى من مستويات الحياة اليومية. هذه هي أهمية فرنسا والبلدان الأوربية إجمالا، أن العلاقة بين المواطن والمواطن ليست انتماء دينيا ولا مذهبيا ولا اثنيا، وإنما هو انتماء مدني، والرابط هو القانون. هم متساوون أمام القانون، لكن ليسوا متساوين كبشر.. كل له شخصيته. هذا هو الشيء الذي نحلم به في مجتمعاتنا العربية وكنا نحلم بشكل خاص في المرحلة الأخيرة أن نتجه – على الأقل- صوب بناء الدولة ومؤسساتها وبناء المواطنين، وأن تكون العلاقة بين المواطن والمواطن قائمة على القانون. لكن هذا – مع الأسف- لم يحصل، وأظنه لن يحصل. وإذن أميز بين مستويات الغرب. الغرب السياسي، الاقتصادي، العسكري، والغرب الثقافي. وأنا أقول هذا حتى في الغرب. أعتقد إذن أن الغرب غربان: الغرب السياسي العسكري الاقتصادي، والغرب الثقافي، وإن كان هناك مثقفون ممالئون للمستوى الأول من الغرب؛ هذه تفاصيل. لكن معظم المفكرين والشعراء في فرنسا كانوا ضد الثقافة الفرنسية. رامبو مثلا. وإذن أنا مرتبط بهذا الخيط الثقافي الخلاق الذي ينتمي إلى الإنسان بوصفه إنسانا، وإلى الكون بوصفه بيتا لهذا الإنسان، ولا علاقة لي بالسياسة إطلاقا، وهم يعرفون ذلك. ومع هذا فتحت لي كل الإمكانيات في باريس حقيقة، وأنا مدين لباريس بهذا كله. بيار: ألا ترى أن الثقافة المهيمنة، ثقافة السلطة، الامبراطورية المركزية المهيمنة، قد تحمل لنا أيضا خطر استلاب أو اغتراب، بغض النظر عن إيجابياتها الكثيرة التي نستفيد منها ونعترف بها؟ أدونيس: في المرحلة الأخيرة يمكن الخوف من ذلك، ويخاف أكثر من كون كثير من المثقفين صاروا موظفين لهذه السياسة أو لخدمة هذه السلطة. لم نعد نجد ساركس ولا جيل دو لوز ولا غاتاري.. وأشباههم. هذا حديث، وبدأ مؤخرا بعد ما جئت أنا هناك. والسبب في رأيي اقتصادي أولا؛ فالوضع الاقتصادي العام فيه ارتباكات وتأزمات كثيرة. والأمر الثاني هو الارتباط بأمريكا؛ فأوربا صارت أقل استقلالا منها أيام ديغول. صارت تدور في الفلك السياسي الأمريكي، وهذا جوهريا فلك اقتصادي عسكري، لا قيمة فيه للثقافة ولا أهمية لها. المثقفون منارات منفردة، لكن هناك مثقفون كبار ضد السياسة الأمريكية المتبعة. وهذا ما أجج الصراع الداخلي والاستقطابات في فرنسا. وأنا أميل للقول إن من العلامات الكبرى على تحول جذري في المجتمع الفرنسي أن يصل إلى رئاسة فرنسا شخص ليس من اليمين ولا اليسار ولا الوسط. هو شخص نابت فجأة، ليس له تاريخ نضالي ولا ثقافي، وكأنه نبتة مصنوعة! هذا لا يمكن إلا أن يؤثر في تطور الثقافة ونموها. بيار: ربما لم تعد فرنسا هذه القوة العظيمة التي تنظر إلى نفسها على أنها هي فرنسا العظمى اقتصاديا ورياديا.. لم تعد تحتل هذا الدور. هناك أيضا هذا الإحباط. أدونيس: على المستوى أوروبي نعرف جميعا أن ألمانيا هي الركيزة الأساسية لما يسمى الوحدة الأوروبية؛ فبدون ألمانيا لا يوجد اتحاد أو وحدة أوروبية، ولفرنسا الدور الثاني في هذا الإطار، لكن أعتقد أنها تعاني أزمات. بيار: كيف تعيش موجة رهاب الإسلام (الإسلامو فوبيا) المستشرية اليوم بفرنسا؟ كيف تنظر إليها؟ كيف تفهمها؟ كيف تقاومها؟ أدونيس: يجب أن نعترف أن لهذا جذورا قديمة تعود إلى أيام الصليبيين. لا بد من الاعتراف بذلك لكي نرى الأمور بشكل أوضح. ولا بد أن نعترف أن النزعات العنصرية في أوروبا لا تزال قائمة وإن كانت مختبئة، أو همشت نفسها لسبب أو لآخر، لكنها موجودة، وهي تستيقظ في مناسبات متباينة. لكن يجب أن لا ننسى أيضا أن للمسلمين سلوكا يوقظ هذه العنصرية النائمة. المسلم لا يعترف بالآخر. بيار: كيف وهو مقموع مهمش؟ أدونيس: الثقافة الإسلامية تريد أن تفرض نفسها حيث وجد المسلمون، دون أخذ الوسط الذي يحتضنها بعين الاعتبار. بيار: أليس هذا رد فعل على الإقصاء؟ استعادة الدين والتمسك به من طرف أجيال لم تدرس الدين! أدونيس: المغالاة في هذا الموقف ناتجة عن تطرف الآخر، لكن في الأساس نظرةٌ إلى الآخر على أنه غير مساو. المسلم لا ينظر إلى الآخر أيا كان – ولو كان في بيته- بوصفه شريكا له، وإنما بوصفه آخر مختلفا عنه. وهذا يتعقد إذا كان قائما في مدرسة، وقائما في المؤسسة الجامعية. يتعقد إذا كان المواطن غير مواطن. هو مواطن وله نفس الحقوق كلها، التي لأي مواطن، لكنه ثقافيا يعيش في عزلة عن الثقافة الوطنية.
بيار: حديثك عن اللاجئين بعد المأساة السورية.. أدونيس: نعم.. بالخصوص. وهذا ما يقال عن إيطاليا وبريطانيا. الدول التي استعمرت العرب نبذتهم، بينما الدولة التي لم تستعمرهم احتضنتهم واستقبلتهم. هذا لا علاقة له بالمسلمين المقيمين في الداخل. وهذا يجب أن يدرس! لماذا.. ما السبب؟ مثلا ألمانيا رفضت بصراحة أن تمول السعودية الجوامع في ألمانيا. إذا قالت فرنسا مثلا: الجامع هو للصلاة فقط، ولن يكون مركزا ثقافيا، ماذا في هذا القول من معاداة الإسلام؟ بيار: بالعكس فرنسا لم تمنع السعودية من التمويل؛ بل سهلت لها الأمر. أدونيس: بماذا يسيء هذا القول إلى المسلمين؟ أن الجامع مركز للصلاة ونحترمه، لكن ليس مركزا للعمل الثقافي، للثقافة أمكنة أخرى. لماذا يفسر هذا الموقف عداء عنصريا؟ الدخول في قضايا حالة واحدة وتعميمها على الوضع أظنه خطأ، لكن المهم الجوهر. الجوهر في الثقافة الإسلامية ما ينبذ الآخر. فيها.. في أصولها، ويجب الإلحاح على ذلك. في العالم كله اعتقادات مختلفة ولا أحد ينتقدها. يجب أن يحافظ المسلم على إيمانه الديني، ولكن باحترام كامل للبلاد التي يعيش فيها ويعمل فيها. بيار: هذا ينطبق على اليهودي وعلى الكاثوليكي.. أدونيس: ينطبق على الجميع، فلماذا لا ينطبق على المسلمين؟ بيار: ليس منطبقا على اليهود ولا على الكاثوليك. الكاثوليكي يعتبر فرنسا ابنة الكنيسة البارة. أدونيس: لكن هناك من ينتقد الكاثوليك. بيار: ونحن ننتقد الغلو.. أدونيس: لكن من ينتقد المسلمين يعد عنصريا. يوجد مزج بين السياسي والواقعي، بين السياسي والثقافي، بين السياسي والاجتماعي، أظنه خطأ. لا يجوز - ولا يمكن- أن تطالب الفرنسي أو الإيطالي بأن يقبل بحرفية ممارسة الدين كما يراه الوهابيون. لا يمكن أن تفرض رؤيتك بحجة التسامح أو الحوار الثقافي.. إلخ. ____________ * نقلا عن قناة الميادين. |
