مارون عبود.. العروبي المستنير (3/ 4)
الثلاثاء, 15 مارس 2016 07:43

 

altغسان: لم يتوقف هذا الرجل منذ نعومة أظفاره عن الكتابة للصحافة. قبل أن يعرفه الناس أديبا ومؤلفا عرف صحفيا؛ لا بل أسس صحفا. يمكن أن نتكلم عن دوره الصحفي، عن أسلوبه الصحفي..

أسعد: الإشارة التي مرت بنا أنه بعد تخرجه من مدرسة الحكمة عمل محررا في صحيفة "النصير" ومن ثم في صحيفة "الروضة" وكان صدور الصحف في ذلك الوقت إما يوميا وإما أسبوعيا. وكانت الصحافة – وهذا ما ينبغي أن نعترف به- في لبنان والعالم العربي، صحافة أدبية. لم تكن صحافة "صحفية" إخبارية أو تحليلية إخبارية بقدر ما كانت أدبية. فـ"الجوائب" يديرها أديب، "الجنة والجنينة" يديرها أديب ويصدرها أديب، "الروضة" و"النصير" يصدرهما أديب. فكان الطابع الأدبي هو الغالب؛ الأمر الذي يمكن أن نسمي فيه ما أنتجه مارون عبود في هذا الحقل بالحرص على أن تكون الصحافة مؤدية دورها في خلق ما يسميه الرأي العام، ومن ثم التوجه بهذا الرأي العام لا أقول لتهديد السلطة، وإنما للتأثير في السلطة إذا آنس منها تباطؤا أو انحرافا عن الجادة.

غسان: هل لذلك استخدم في أسلوبه الكتابي هذه السخرية التي تنساب من بين كلماته؟ هل توسلها لغرض تسويقي لأفكاره؟ "الأمير الأحمر" على سبيل المثال.

أسعد: "الأمير الأحمر" وسواه أيضا.

غسان: "الأمير الأحمر" أتيت به للتمثيل.

أسعد: ما من مقالة حررها أو قصة كتبها، أو أثر أدبي خلّفه إلا وللفكاهة فيه نصيب واضح. سبب هذه الظاهرة أن له أولا ميلا إلى السخرية بطبعه وقد غذى هذه السخرية – أو هذا الميل-  اتصاله بالجاحظ وبالشدياق. الجاحظ سيد السخرية في أدبنا العربي، وكان لسان حال مارون في سخريته ما جاء عن الجاحظ ردا على من عاب كتبه: "ولم يدر أن الفكاهة جد إذا اجتلبت لغاية هي الجد" وما يقوله الجاحظ طبقه مارون. لم تكن فكاهة مارون للإضحاك إطلاقا، ويخطئ من يظن ذلك.

غسان: هي فكاهة مرة؟

أسعد: فكاهة تهدف إلى الإصلاح. وكان إذا حضرته الفكاهة لا يتورع عن الإتيان بها، حتى في أكثر الأماكن جدية! خذ قصته "الدائم دائم" خذ روايته "الأمير الأحمر".

غسان: ينقد فيها الواقع القروي اللبناني.

أسعد: بالضبط. كتابه "فارس آغا".

غسان: كيف تنقد أدب مارون عبود؟

أسعد: مارون عبود نفسه كفاني مؤونة أن أتدخل في نقد أدبه؛ فقد كان نقادا لذاته، ففي مقدمة "زوابع" يعطي آراء صريحة في أن الأبيات الشعرية والقصائد التي سنطالعها سيكون له موقف قاس منها "فيا ويل مارون عبود الشاعر من مارون عبود الناقد".

وأنا أدرس أدب مارون عبود كان في ذهني هاجس: أين أعثر على هذا المارون الناقد الذي تناول أدبه؟ لم أعثر عليه! قد يكون قالها عفوا، وقد يكون مارسها أو كتب نقدا ولم يصل إلينا، مع أني أمضيت وقتا في مكتبته. وهنا أشكر أبناءه جميعا؛ فقد استضافوني آن ذاك أسبوعا كاملا وأنا أبحث، فلم أعثر على هذا نهائيا.

بقي أن نشير إلى أن مارون عبود في نقده يسلك منحيين:

- منحى يظهر فيه حنوا ولطفا ولباقة في تناوله أدب الناشئة من الشباب، وكأنه يحقق معهم وظيفة النقد الأساسية.

غسان: أنا سآتي – سيدي- إلى نقده للآخرين. أريد نقدك لأدبه.

أسعد: القصة والرواية عنده هما درة التاج! إنتاجه الأدبي الإبداعي يتجلى في الأقصوصة كما يتجلى في الرواية. من رواياته "فارس آغا" التي هي تاريخ لبنان مصوغ صوغا فنيا قصصيا. كثير من الكتاب الذين يأخذون من التاريخ موضوعات رواياتهم أو قصصهم يقعون أسرى للتاريخ بينما مارون عبود ذهب إلى التاريخ ورجع منه أديبا قصاصا روائيا من طراز أول، يحسن خلق شخصياته بحيث يخيل لقارئه أن هذه الشخصية التي يرسمها مارون عبود في رواياته أو أقاصيصه هي شخصية حية رآها وعرفها وسايرها، وهذا ما حصل لي! كنت أرى في حياتي اليومية شخصا معينا أقول: عجبا، أين رأيته؟ وإذا بي أتذكر أنها شخصية رسمها لي مارون عبود. وهذه براعة في العمل القصصي.

غسان: نصل إلى مارون عبود الناقد. في النقد هناك مدارس، ولكن نقده للكتَاب تناول – كما قلت- أدب الناشئة من الأدباء والشعراء، وتناول نقد الكبار من معاصريه أو من سبقهم قليلا.

لنبدأ بالكبار قبل أن نأتي إلى الناشئة في ذلك الوقت؛ الكبار بالنسبة إلينا. لماذا هذه القساوة في نقد الكبار؟ لنبدأ بطه حسين.

أسعد: قبل أن أصل إلى طه حسين لا بد أن أشير إلى أن مارون عبود ناقد تطبيقي، وليس ناقدا تنظيريا يعمد إلى بعض النظريات النقدية – غربية وغير غربية- ليستند إليها في معالجة النص الذي بين يديه. هذه ناحية.

الناحية الثانية أن منحى مارون عبود النقدي العام منحى واقعي يميل إلى الواقعية ويذهب مذهب الواقعية.

وهنا أتمنى أن أفرق بين الواقع الحياتي وبين الواقع الفني. الواقع الفني هو واقع متخيل وليس واقعا جامدا.

غسان: لأن أمامنا كثيرا من الكتاب وأحب أن أعرف منك رأي مارون عبود فيهم..

أسعد (مقاطعا): بالضبط. عندما تسنم سدة النقد النقد التطبيقي رأى أن الجو العام في أدبنا العربي تسيطر عليه هالات أضفاها على أشخاص بأعينهم وإن كانوا غير أهل لمثل هذه التيجان أو الألقاب التي لحقتهم.

غسان: هل هالة طه حسين أكبر من قامته.

أسعد: بنظر مارون عبود.. ولندع وجهة نظرنا.

غسان: هذا ما أريد.

أسعد:عندما أتى إلى طه حسين، وهذا الرجل أستاذي، تتلمذت له سنتين كاملتين، كان يلقي المحاضرة دون أية وثيقة سوى الذاكرة، ونحن نأخذ منه ما يقول من دون أن ندون لأن أسلوبه وعذوبة صوته وتركيب كلامه يدخل النفس بدون استئذان، وكنا سعداء.

غسان: ماذا يقول فيه مارون عبود؟

أسعد: عند ما قرأنا ما يقوله مارون عبود عنه فوجئنا بأنه كان أعمق منا نظرا! قال هذه الجملة: "طه حسين كالدجاجة: يقاقي كثيرا ولا يبيض إلا قليلا". ما الذي يقوله مارون عبود؟ يقول إن صفحة كاملة تقرؤها لطه حسين يعطيك فيها من الحقائق والآراء كمية أقل جدا مما ينبغي أن تحتوي عليه الصفحة! لماذا؟ وأنا أعي هذه الظاهرة. تعليلي لهذا أن الأذن التي يعتمد عليها طه حسين عوضا عن الرؤية كانت تجذبه إلى مثل هذه الأساليب الموقعة توقيعا.

ولكنه مع طه حسين يظل أرحم ألف مرة من موقفه من العقاد وموقفه من بشارة الخوري.

غسان: لنأخذ موقفه من العقاد وبشارة الخوري، وهما قامتان كبيرتان في الأدب العربي.

أسعد: العقاد أتانا بنظرية صحيحة فكريا؛ أن الشعر ينبغي أن ينزل من الأبراج العاجية ويتناول الشاعر موضوعاته من الشارع، من حياته اليومية. رأي رائع! قام يطبق فأصدر ديوانا سماه "عابر سبيل" صور الكَوَّاء ليلة العيد.. وما إلى ذلك. أتى مارون فوجد أن ليس في الديوان شعر! فكان موقفه بهذا الوضوح: "ليته عبر عن رأيه نثرا؛ فهو في نثره أشعر من شعره".

ثم يقول في موقع ثان: "إن شعر العقاد كالحطب اليابس. وليته كالحطب؛ ففي الحطب نار ونور؛ أما عند العقاد فدخان يعمي الأبصار إلى أن تأتي السماءُ بإذن ربها. فلماذا هذا الموقف الساخر والقاسي؟ لأن مارون عبود يؤمن بأن للنقد وظيفتين ويطبقهما.

الوظيفة الأولى أن يدرس الأثر الأدبي ويبين حسناته وينميها ويدعو إلى الاستمرار فيها، ويبين ما فيه من هفوات ليجنبنا مغبتها. هذا هو الدور الأول.

أما الدور الثاني فالناقد هو رائد أو قائد للحركة الأدبية.

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

فيديو

الآن في المكتبات

فيديو

المتواجدون الآن

حاليا يتواجد 9 زوار  على الموقع