| أدونيس: هذا هو اسمي (ح 6)* |
| الأحد, 20 مايو 2018 09:07 |
|
لا يمكن أن نميت لغة ولا أن نحيي لغة
أدونيس: صحيح.. حدث بيننا نوع من الخلاف التفصيلي، وليس المبدئي. مثلا كنا نختلف على الموقف من اللغة الدارجة، وعلى موقف الثقافة من الدين. كان هو ميالا إلى عكس نظرية سعيد عقل، وهذا كان يريد التأسيس للهجة خاصة في لبنان. وقلنا له: إذا كانت هذه لهجة زحلة فستكون غدا لهجة طرابلس.. وتتعدد اللغات اللبنانية داخل اللغة الواحدة! يوسف الخال كان يقول: يجب أن نأخذ اللغة العربية كما هي، ولكن نغفل الحركات. وهذه نظرية معقولة وممكنة، وأعتقد أن هناك نقادا عربا قدماء قالوا بمثل هذه النظرية. كل ما نتحدث به هو من المعجم العربي، لكن الفرق أننا نُسَكّن الكلمات فقط، وأعتقد أن هذا الموقف سينتصر في المستقبل. كنت أقول له: لنترك هذا للتاريخ، لا يمكن أن نميت لغة ولا أن نحيي لغة. اللغة – كأي كائن حي- لها شروطها وأوضاعها، تنمو وتنحدر، وتموت! ماتت لغات عظيمة كثيرة في التاريخ. لنترك اللغة العربية كما هي. وأنا شخصيا لن أكتب بالدارجة لأني لا أعرف الكتابة بها. سوف أكتب بهذه اللغة العربية التي أراها عظيمة وجميلة حتى لو قيل إنها ميتة. كنا نختلف حول هذا. نختلف أيضا حول الدين. مثلا أنا كان الدين في رأيي.. أعني المسيحية هنا بشكل خاص باعتباره هو شخصا له بعد مسيحي في رؤيته للإنسان والعالم.. لم يكن يفصل بين شخص المسيح وبين الكنيسة، وأنا كنت أفصل بين الكنيسة كمؤسسة وبين المسيح كشخص لا علاقة له بالمؤسسة، وهو أول من رفض المؤسسة ودحضها وقاتلها، والمؤسسة سبقته. وإذن فهذه هي المسيحية في رأيي. كان هذا خلافا شخصيا بيني وبينه، وأنا لست متدينا. وكان يكتب قصائد مليئة بهذا البعد المسيحي، وقد حييته في مقدمة كتبتها لمختارات من شعره، وقلت إنه للمرة الأولى يدخل البعد المسيحي في الشعر العربي؛ لا بوصفه طقوسا أو شعائر أو انتماءات مذهبية؛ وإنما بوصفه بعدا رؤيويا من أبعاد الرؤية الشعرية العربية. وأعتقد أن يوسف الخال ذو أهمية كبيرة على هذا المستوى، لكنه غير معروف مع الأسف، وغير مقبول. بيار: أود الرجوع إلى محاضرته الشهيرة في الندوة اللبنانية، لأن فيها كل المفاتيح يتناول فيها التجربة الحياتية والصورة الحية واستبدال التعبيرات القديمة وتطوير الإيقاع، ووحدة التجربة للتسلسل المنطقي، ويرى أن كل تجربة لا يتوسطها الإنسان فهي سخيفة، وينادي بوعي التراث العربي والغوص في أعماق التراث الأوروبي، والاستفادة من التجارب العالمية، والامتزاج بروح الشعب لا بالطبيعة.. أدونيس: كان الخلاف حول هذا أيضا. الطبيعة المقصودة لم تكن واضحة. إذا كانت الطبيعة بالمعنى الرومنطيقي فهذا صحيح، لكن الطبيعة بالمعنى الأرضي هي امتداد للجسد البشري، ودون فهم الرابط العميق بين الأرض والإنسان يصبح فهم الإنسان غائما وغير دقيق. كنا نختلف حول تفاصيل من هذا النوع، لكني موافق بالإجمال على كل ما قاله في هذه المحاضرة. بيار: في ذكرياتك ومذكراتك نحس في كل ما تكتبه أن النقاش بينك وبين يوسف الخال. هل كان النقاش أوسع، كيف كان يجري اللقاء والنقاش؟ بعد الأعداد الأولى انضم أنسي الحاج وشوقي أبي شقرا، كيف كان يدار المطبخ؟ أدونيس: كنت أنا الوسيط بيار: لم يكن هذا في البدايات.. أدونيس: كنت أنا ويوسف فقط، وكنا منسجمين، ولكن بعد دخول أنسي، وبعد دخول خالدة سعيد التي لعبت دورا أساسيا في إدخال أنسي الحاج ودراسته وتقديمه للقارئ، وأعتقد أن أهم دراسة كتبت حتى الآن عن أنسي الحاج هي الدراسة العميقة والمهمة جدا، التي كتبتها خالدة سعيد عن مجموعته "لن" وتبدو الآن أهميتها أكثر من الماضي. تشعب الخلاف أكثر فأكثر بعد انضمام شوقي وأنسي وآخرين. ضعف يوسف – أقول: ضعف- وانحاز إليهما، بينما كنت أنا قد تطورت أكثر. قلت: نحن نكتب بلغة عربية، ولا نستطيع أن نجدد شعرية اللغة العربية إذا لم نعرف الشعر العربي. وهذا ما اقتنعوا به، وقد قمت أنا به في قراءة للشعر العربي سميتها ديوان الشعر العربي، وقد صدرت عن المكتبة العصرية، وكان صحبها رجلا طيبا وعمل كثيرا. بيار: في 1971. أدونيس: نعم. بيار: قبل الثابت والمتحول، المهم أن هذا سيربطك باتجاه جديد. أدونيس: وأقنعتهم بأن من الضروري معرفة الشعر العربي معرفة صحيحة بأن نقرأه قراءة جديدة. هذا قاعدة لحركة الشعر العربي الحديث, وهنا بدأت الخلافات حول النصوص التي تنشر. الشيء الثاني أننا جزء من هذا التراث، وأهمية مجلة "شعر" هي أنها جزء من التراث العربي، وبما أنها كذلك يجب أن يكون لها رأي وموقف منه، ولكي يكون لها رأي وموقف منه يجب أن تدرسه، وأن تنتقده، وتتفاعل معه، وتتحاور معه؛ خصوصا أن الشعر العظيم - عند جميع الشعوب، وفي جميع اللغات- لم ينفصل عن ثقافة الشعوب التي أنتجته. لا يمكن أن تكتب بلغة تجهل ثقافتها وتجهل تاريخها، ولذلك اتجهت إلى قراءة الموروث العربي بكامله؛ نثرا وشعرا، وأنجزت الجزء الأول من القراء؛ وهو الشعر، ومؤخرا أنجزت القسم الثاني الذي كان النثر العربي. أدى هذا أكثر فأكثر إلى نوع من الخلاف. بيار: ما الذي كان يجري في خميس "شعر"؟ ومن كان يحضر؟ وكيف كانت اللقاءات؟ ما هو خميس "شعر"؟ أدونيس: كان خميس "شعر" لقاء دوريا.. بيار: أين؟ أدونيس: في بيت يوسف الخال أحيانا، وفي بيت أحد الأصدقاء أحيانا أخرى، وفيه كنا نقرأ ديوانا حديث الصدور ونناقشه، أو نقدم شاعرا، كما فعلنا بمحمد الماغوط في إحدى أمسيات خميس مجلة "شعر" تحدثت عنه، وبعد ذلك نشرنا له "حزن في ضوء القمر" وتحدثنا عن مختلف اتجاهات الشعر العربي الموجودة في ذلك الحين. الحضور طلاب وأساتذة جامعيون وصحفيون ومثقفون مستقلون وشباب صغار، لكن العدد كان محدودا لأن المكان لا يسع الكثير. كانت لنا جلسات مع نازك الملائكة، ومع سلمى الخضراء الجيوسي، ومع فدوى طوقان، وكنا نتشوف إلى أن نحاور ليلى البعلبكي، وكانت موغلة كثيرا. أرجو أن تسمعنا حيث هي. كان مناخا جميلا جدا خلقه مجلس "شعر" لكن – مع الأسف- تمت القطيعة!
أدونيس: على مستوى الصداقة الشخصية بقيتُ وأنسي الحاج صديقين، لم تتغير علاقتنا إطلاقا، إلا في بعض الحالات العابرة، لكن في العمق بقيت كما كانت، وكذلك يوسف الخال أيضا. وهنا شهادة تاريخية يجب أن أشير إليها تحية ليوسف الخال: كنا نجلس دائما في مقهى الأوروبية في أول الحمراء، وقيل لنا إن الأستاذ ميشيل عفلق - وكان يحكم سوريا آنذاك بحزب البعث- موجود في فندق هناك، فقلت ليوسف: لم لا تذهب لرؤيته وسؤاله لما ذا تمنع مجلة "شعر" من دخول سوريا! ليوضح لنا الأسباب. قال لي يوسف: تذهب معي. قلت له: أنا لن أذهب، لأني أعرف الجواب سلفا. اذهب أنت وسأنتظرك في المقهى. وأصر على أن أذهب معه فقلت له: لا يمكن أن أذهب معك لأني واثق من الجواب. وانتظرته حتى عاد فقال لي: معك حق! قلت له: باختصار ما ذا قال لك؟ قال لي (يوسف): شرحت له وأعطيته نماذج من الأعداد، وقلت له: نحن نراك كاتبا وأديبا أكثر مما نراك سياسيا، لكن نفوذك الآن في سوريا هو ما دفعنا إلى أن نسألك: لماذا تمنع سوريا مجلة "شعر"؟ وكان من الرقباء - فيما أذكر- علي الجندي وزكريا تامر، فسأله ميشيل عفلق: هل منعتها سوريا رسميا؟ فقال له: طبعا، ولهذا جئت لأبحث معك، فكان جواب ميشيل عفلق – كما ذكر لي يوسف الخال:- إذا كانت الدولة منعتها فلا بد أن يكون الحق معها. قال له: طيب.. شكرا. ورجع يوسف حزينا، وحينما رآني قال لي: معك الحق. ____________
* نقلا عن قناة الميادين. |
