"اللوحة" (قصة قصيرة جدا) للشيخ بكاي

 

قراءة النجاح بنت محمذ فال

القصة:

تحولت اللوحة إلى كائن ينبض بالحياة.. يتحدث.. يوزع البسمات، ويهذي بكلام الصوفيين..

قال عصفور أزرق يقف غير بعيد: "حلت فيها روح رابعة العدوية بعد أن عبدها اليونان ربة للجمال، واستلهم منها دافينشي ظلال جوكوندته، ومنها صيغت أسماء القديسات".

لم يكن نائما ولا واقعا تحت تأثير مخدر، لكنه وجد نفسه يرقص في السماء السابعة ثملا بخمرة ابن الفارض وشطحات الحلاج، ووجد أبي مدين الغوث…
عاد إلى الأرض تطارده الهواتف:

"أنت كائن من طين".

قال :
"نعم… وتذكرت أيضا زلزالا وقصيدة شعر، وما يشبه الجنون"..

امتطى صوت ضحكة ومضى يعبر الزمن ينفخ نايه للحب ويندب الحلاج..

 

القراءة:

اللوحة أصلا هی أثر لأي موجود طبيعي أو بشري؛ يجسده عمل فني إبداعي؛ هو فن الرسم الذي يندرج ضمن الفن التشكيلي..
إلا ن اللوحة هذه المرة عمل أنثوي، نال شغف البطل لارتباطه بقصة حب عاتية تجلت على لسان عصفور أزرق.

البطل هو العصفور الأزرق "قال عصفور أزرق يقف غير بعيد".

البطلة هي اللوحة أنثى جمعت بين الجمال والكمال المكتسب ..

يأتي البطل متجليا في العصفور، لما له من إيحاء بالحب والجمال والخلود، كما أن له رمزية لدى بعض الشعوب توحي بالسرور بعد موجات الأحزان!
وفي نفس الوقت يأتي تجلي البطل عصفورا هروبا من سطوة الأنا الأعلى؛ وذلك ليتمكن البطل من كسب حرية افتقدها يوما؛ حرية غابت فلم ينل المحب إلا وجع الذكرى.

لكن تجليه عصفورا مكنه من نيل حريته في إغداق الأوصاف علي محبوبته بالقدر الذي يختزل فيها كمال الدنيا ومكنون الوجود!

(قال عصفور أزرق يقف غير بعيد: "حلت فيها روح رابعة العدوية بعد أن عبدها اليونان ربة للجمال، واستلهم منها دافينشي ظلال جوكوندته، ومنها صيغت أسماء القديسات").

ومع أنه قلما تأتي خاصية المكتسبات المعرفية والعقلية مقترنة بالجمال عند العرب فقد حصل ذلك!

ففي العصر الأموي ارتبط الجمال بالشجاعة والعلم بشأن سكينة بنت الحسين بن علي، وفي العصر العباسي برزت رابعة العدوية مصدر إلهام البطل في هذه القصة..

يظل البطل في تجليه عصفورا يرقص في السماء السابعة يناجي حبه بأسلوب ابن الفارض حتى يصل إلى النهاية المأساوية للحلاج حينها يشعر بالضعف والهزيمة لأنه عاد إلى الأرض آدميا من طين، ويبدأ الصراع الداخلي بين خصوم يتباعدون كالأرض والسماء :

عصفور حر يرقص في السماء السابعة لأنه عصفور، ممتهن لأنه آدمي من طين مكبل بقيود العقل التي تفرضها الأنا الأعلى.

وهنا تأتي الرجولة لتُحقر من شأن نفسها مقابل الأنوثة لأنها تجعل الأنوثة في تجليات قدسية؛ بينما تجعل من الذكورية ذلك التجلي العاجز المستكين نقمة على جهد ضاع؛ في حين تأتي الأنوثة (اللوحة) في تجليات قدسية أربعة :

التجلي الأول: روح رابعة العدوية "حلت فيها روح رابعة العدوية" وهي التي اشتهرت في العصر الأموي بالشعر والتدين، وكتب عنها كثير منهم ابن الجوزية وسفيان الثوري.

التجلي الثاني: إلهة الجمال عند اليونان أفروديت (Aphrodite)‏ وهي التي ذكر البطل أنها معبودة اليونان ربة للجمال. وهنا تنكشف أسرار اللوحة شيئا فشيئا، لأن القصة القصيرة جدا بحاجة إلي الإبهام، ولذلك يعجز البطل (العصفور) عن السيطرة علي مشاعره، كما يعجز أي عصفور عن تحمل العناء والإبهام، لذلك يتحرر البطل من الغوص في الحضارة والثقافة العالمة وإن كانت من مصادر إلهامه، ليغوص في أعماق المعبودات الأنثوية من أفروديت (Aphrodite) إلهة الجمال عند اليونان إلى الموناليزا في لوحة الفنان الإيطالي دافينشي..

التجلي الثالث: في هذا التجلي تأتي لوحة الموناليزا بكل ثقلها الإيحائي في وحي الجمال :

والتي منها استلهم دافينشي ظلال جوكوندته. أما وقد قال عنها الفنان الإيطالي الذي رسمها خلال أربعة أعوام :

"إن جميع الحواس لتتمنى أن تلتهم صاحبة هذه اللوحة التهاما؛ وخاصة هذا الفم الرشيق الذي يشتهي كل جسد أن يكون له مثله.

أما التجلي الرابع فهو صياغة أسماء القديسات من اسمها ..

وبالتجليات الأربعة تتقدس المحبوبة في تصور العاشق الذي استمد حريته في العشق من كونه عصفورا لا آدميا؛ مما يشكل ثورة على الأنا والانا الأعلى معا.

وبعد سكب تلك التجليات تستشعر الذكورية ضعفها وعجزها أمام طغيان سلطان الأنوثة، فيغدو البطل بعد أن وصل إلى السماء السابعة عصفورا؛ ما هو إلا كائن من طين فاقد لحريته، مستكينا لإرادة الأنا الأعلى سفليا كالطين تطارده لعنات أهل الأرض (عاد إلى الأرض تطارده الهواتف:
"أنت كائن من طين").

ومن ثم تتغير العلاقة الإسنادية من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم بعد عودته إلى الأرض (نعم… وتذكرت أيضا زلزالا وقصيدة شعر، وما يشبه الجنون(..
ثم يتغير جنسه! فبعد أن كان من جنس الطيور محلقا في السماء السابعة؛ نزل من السماء وهو آدمي، مما ينسجم وفقده للحرية ورضوخه لعذاب المحبين. عندها يلجا إلى فسحة الذكرى (وتذكرت أيضا زلزالا وقصيدة شعر).
ذكري جعلته يسافر عبر الزمن..

إنه سفر! وما من آليات للوصول سوى أنه "امتطى صوت ضحكة ومضى يعبر الزمن ينفخ نايه للحب ويندب الحلاج.." هنا يكتمل اليأس وتعود القصة إلى التشهير بالأنوثة التي تغيب عن كل تلك المشاهد المؤلمة التي عاشها البطل.. والتي جعلته يعيش مسافرا داخل قفص وجع الذكري متجليا في أحزان الناي ومصير الحلاج الذي تم تقطيع أطرافه ثم قتل وهو راض حين اتهم بالقول بالحلولية رغم إعلانه لحب الذات الإلهية.

عندئذ يستسلم لسلطان عاشق مهزوم يلهث خلف الذكرى التي لا تسعفه إلا بمجرد صوت ضحكة يمتطيها ليسافر عبر الزمن ليعيش حبه عن بعد!

هنا أيضا يأتي التصبر بالشعر مقرونا بندرة اللقاء كالزلزال في الندرة وقوة التأثير (نعم.. وتذكرت أيضا زلزالا وقصيدة شعر، وما يشبه الجنون..

امتطى صوت ضحكة ومضى يعبر الزمن ينفخ نايه للحب ويندب الحلاج)..

ليس جديدا أن يعيش الأديب العربي حبا عن بعد ولكن من النادر أن تكون الأعمال الإبداعية وقودا لسكينة الحب كما حدث في هذه القصة، وقبلها مع نزار قباني فی قصيدته "اكتبي لي" حيث يوثق صلته بسطور مراسلته حين يصف قراءته بالامتصاص من شدة صلة أهداب عينيه بما تكتبه :

وتمتصُّ أهدابي انحناءاتِ ريشةٍ ** نسائيةِ الرِعْشَات ناعمةِ النجوى
لَتُفْرِحُني تلك الوريقاتُ حُبِّرَتْ ** كما تُفْرِحُ الطفلَ الألاعيبُ والحلوى
وما كان يأتي الصبرُ لولا صحائفٌ ** تُسلَّمُ لي سرّاً فَتُلْهمُني السلوى
أحِنُّ إلى الخَطِّ المليسِ ورُقْعَةٍ ** تطايَرُ كالنجماتِ أحرُفها النشوى.

فهل الحب عن بعد هو قدر المحبين العرب.

وهل قدرهم أن تكون النهاية مأساوية كنهاية الحلاج؟ وهل

الحب في الأرض بعض من تخيلنا ** لو لم نجده عليها لاخترعناه؟!