رمضان كما عشته (19)
محمدُّ سالم ابن جدُّ
خلال رمضان 1414هـ (فبراير ومارس 1994م) ارتأت مؤسسة علمية ترتيب محاضرة مع الشيخ محمد سالم ابن عبد الودود رحمه الله، فأوفدتني والشيخ محمد بن الدناه حفظه الله (وكنا نعمل بها) إلى الشيخ لتنسيق الأمر معه.
جئناه بين الظهرين في منزله الواقع ضمن جزء المساكن العمومية الذي كان يمتد من الجامع الكبير شرقا، وكما تقتضي الأحوال جرى الحديث عن الحال مع الصوم فقال إنه لا يستعمل "السواخن" وإن ذلك معين على سهولة الصوم. وهي المرة الأولى والأخيرة التي سمعت فيها هذا التعبير المهذب عن الشاي والقهوة والدخان.
لفت انتباهي أن جميع من هناك أيقاظ في وقت يغلب الخمول والنعاس على الناس في المنازل، وبدآ يمتدان وقتها إلى المكاتب أيضا. وأثناء وجودنا معه قدم إليه طالب جزائري له إفادة مزدوجة رقنها لنفسه باسم الشيخ طالبا منه توقيعها فاعترض على تعبير "أنا السيد" في صدرها، لكن الطالب لم يفهم في البداية وجه الاعتراض فقال له: الكلام هنا باسمي أنا، وأنا لا أصف نفسي بالسيد.
وفي النسخة الفرنسية ناقشه في حرف علة ورد في إحدى كلماتها هل الصواب فيه E أم I بشكل ينم عن معرفة وتمكن.
أزف اليوم الموعود فشرَّفنا الشيخ بمحاضرة احتشد الناس لها، وكان واجبي يقضي أن أكون معه، وأثناء جزء الإلقاء قلت في نفسي: هل يتحفظ الشيخ في ذكر عمره الحقيقي كما يلاحظ في كثير من الأفاضل (أنا أعرف عمره فلست بحاجة للسؤال) ولقطع الشك باليقين دسست سؤالا من عندي بين أسئلة الجمهور عن الفرق بين "رمضان الآن ورمضان منذ 50 سنة على سبيل المثال".
كان الشيخ رائعا في رده حصيفا في مرامه، فقال إنه لم يكن من عادة السلف الصراحة في ذكر أعمارهم؛ واستشهد على ذلك ببيتين لم أسمعهما قبل ذلك ولا بعده:
احفظ لسانك لا تبح بثلاثة: ** مال وسن إن سئلت ومذهب
فعلى الثلاثة تبتلى بثــلاثة ** من حاسد ومبَدّع ومكـــــذب.
بعد هذا بأكثر من عشر سنوات طلب مني مدير لي أن أرد باسمه على رسالة وصلته عبر بريده الألكتروني ففعلت (والمفروض أن الرد منه) لكنه لم يرض عن عدم وصفي إياه (وصفه نفسه حقيقة) بالأستاذ! يومها تذكرت الشيخ الموقر فعجبت ممن يعترض على وصف نفسه بالسيد ومن يريد وصفها بالأستاذ مع تباين قيمة اللفظين وغياب وجه لمقارنة الرجلين!