.. حتى لا نركع مرة أخرى! (1)

كتب هذا المقال ونشر إثر المحاولة الانقلابية التي جرت يومي 8- 9 يونيو 2003

وأريد منه وضع معالم للطريق التي ينبغي سلوكها للخروج من النفق،

وبعد 20 سنة نعيد نشره؛ فما أشبه الليلة بالبارحة!

لا أريد أن أجرح أحدا! أريد تسمية بعض الأشياء بأسمائها، وإثارة حوار وطني بين من لا يزالون يتمتعون بنعمة السمع والبصر والكلام، ولديهم مثقال ذرة من خلق وتقوى!

 "أنعي لكم، يا أصدقائي، اللغة القديمه

والكتب القديمه

أنعي لكم:

كلامنا المثقوب كالأحذية القديمه

أنعي لكم..

أنعي لكم..

نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمه.

              

لو أحد يمنحني الأمان

لو كنت أستطيع أن أقابل السلطان

قلت له:

يا سيدي السلطان

كلابك المفترسات مزقت ردائي

ومخبروك دائما ورائي..

عيونهم ورائي..

أنوفهم ورائي..

أقدامهم ورائي..

يا سيدي.. يا سيدي السلطان

لقد خسرت الحرب مرتين

لأن نصف شعبنا ليس له لسان

لأن نصف شعبنا محاصر كالنمل والجرذان،

في داخل الجدران..

لأنك انفصلت عن قضية الإنسان."

( نزار قباني هوامش.. على دفتر النكسة)

 

        البلاد على عتبة "استحقاقات رئاسية"

        "يعم الفساد جميع البلاد"..

        عشرات سجناء الرأي بمن فيهم علماء وأئمة وشيوخ الأمة تغص بهم السجون دون جرم اقترفوه..

وسائل التدجيل تشن حملة شعواء مغرضة على عدو وهمي، لا يعرفه الموريتانيون، يدعى "الإرهاب"!

        يخيم احتقان خانق يدركه الصبي والغبي..

        ... ولا يحرك  النظام ساكنا! أعمى لا يرى! أصم لا يسمع!

        ***

ثلة من شباب الجيش تقود انقلابا نجح في السيطرة على معظم مرافق نواكشوط ثم انحسر وفشل!

لم يتجاوب الشعب، رغم ما به، مع الانقلاب.. ولم ينحط إلى درك الشغب والنهب!

        رئيس الجمهورية يعود، على أكتاف الجيش، إلى قصره المستباح.. ويلقي بيانا مقتضبا تحدث فيه عن المحاولة وتدمير قوة التمرد دبابة، دبابة.. وشكر الجيش.. ثم اجتمع بقادته في الأركان وأدى لهم تحية عسكرية!

        عادت الإذاعة ، بعد صمتها، إلى بث أغاني التأليه..  

المنافقون الذين تواروا عن الأنظار أمس واليوم، وتهيئوا لفسخ جلودهم وارتداء جلود الوافدين على السلطة، أيا كانوا، بدءوا يتظاهرون للعائد.. مثلما كانوا سيتظاهرون للوافد!

        عشرات القتلى والجرحى عسكريين ومدنيين، ومرافق عمومية مدمرة، وعشرات آلاف النازحين.. وأسرى أيضا..

شيء لم نعرفه أبدا!

زلزال مدمر لم يكن في الحسبان!

        ولكيلا يتكرر، أو تكون الهزة الارتدادية أفظع من الزلزال الأصلي، تجب معرفة أسبابه ومعالجتها واستنباط الحلول الشافية للأمراض التي يعاني منها مجتمعنا ودولتنا.

 

ما هو السبب؟

الأمر، في نظر المنافقين الذين صعقوا، خيانة وبغي وفساد في الأرض! ولعله كذلك في نظري أيضا! ولكننا نختلف في الأسباب وفي الحلول. هم يحاولون، على طريقتهم، تجاهل أسبابه والقفز إلى "حلولهم" العقيمة التي لا ترى أبعد من حماية مصالحهم الأنانية المهددة!

وأنا أرى أن واقعا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا معينا أحاط بما حدث وأفرزه! ومن العمى إنكار هذا الواقع والقفز عليه والتذرع بأسباب واهية كنسيج العنكبوت. وهذه أبرز ملامح ذلك الواقع:    

     مصادرة الديموقراطية

        بعد أن عشنا ثلاثة انقلابات ونصف وثلاثة أرباع انقلاب، وانصرمت 11 سنة من حكم العسكر، أتت على الأخضر واليابس، تفتقت أذهان الغرب (مؤتمر لابول)، في إطار ترميم نظامه العالمي الجديد، عن تصدير الديموقراطية ودولة القانون إلى ما وراء البحار! وتم تسجيل العلامة قي بلادنا، التي لم تنجبها، باسم القيادة الوطنية لتشكل نعمتها اليتيمة على العباد والبلاد. وفي يوليو 1991 أصبح للبلاد دستور. وبدأ "مسلسل" إقامة المؤسسات الديموقراطية ودولة القانون!

        ولا يختلف اثنان اليوم، بعد انقضاء فترتين رئاسيتين، على أن ديموقراطيتنا صودرت وعطلت وأفرغ مسلسلها من محتواه على يد بطانة امتهنت النفاق، وأهلكت الحرث والنسل:

        ـ أضيفت مادة إلى الدستور (المادة 104) عطلت الحريات التي شرعها، بتبنيها للقوانين الاستثنائية التي نصت تلك المادة الدخيلة على بقاء العمل بها ساريا ما لم يتم تعديلها أو إلغاؤها! ومعلوم أن عناية المشرع الموريتاني (الحكومة عمليا) تتجه في مجال الحريات إلى التقييد لا إلى الإطلاق!

        ـ زورت الانتخابات باعتراف النظام!

        ـ حلت الأحزاب المعتبرة.

        ـ احتكر الإعلام الرسمي ودجن، وصودرت الصحف المعتبرة وأوقفت وحوصرت بالجرائد الصفراء.

        ـ انتهكت الحريات واضطهد وحوكم أصحاب الرأي.

        ـ أما الطاعون.. فتجسده صناعة النفاق التي تزرع التملق والكذب والفسق والفساد في المجتمع، خاصة بين الفئة المتعلمة، طريقا إلى قلب النظام والوصول إلى المال والجاه والترف! متخذة من القبيلة والجهة والفئة والعنصر أوكارا حميمة لها!

        والخلاصة: وأد الأمل الديموقراطي، وتهميش المجتمع، وغياب سلطة وحماية الدولة. وبالتالي سيطرة عصابات المافيا!

        خراب الاقتصاد

        وفي المجال الاقتصادي، أدت الليبرالية الهمجية التي تم تبنيها إلى خراب الاقتصاد الوطني:

        ـ بيعت مؤسسات القطاع العام بأوقية رمزية إلى حواريي النظام، أو "فككت وألقيت في البحر".

        ـ دمرت المؤسسات الصناعية التي كانت قائمة ومزدهرة، فرفعت الحماية عنها، وفتح على مصراعيه باب منافستها وإغراقها بالبضائع الأجنبية من كل حدب وصوب!

        ـ سرّعت وتيرة نهب الثروة السمكية بلا حدود أو رقابة، وأهمل الأسطول الوطني فتلاشى واندثر!

        ـ نهب المال العام، وجعل دولة بين الأغنياء والمسؤولين دون مسائلة أو عقاب!

        ـ أفلست "خطط التقويم" التي تشرف عليها مؤسسات النقد الدولية إفلاسا ذريعا، وآلت إلى كومة من الأرقام المزورة تحرسها مكاتب الاقتصاد والمالية! وطارت الأسعار! وهبطت الأوقية! وتردت الزراعة! ونفقت الماشية!     

         انهيار المجتمع

        وليس غريبا في وضع كهذا ـ يفتقر فيه الإنسان إلى أدنى حد من الحماية والتأهيل والتوجيه ـ أن تستفحل البطالة، وتعم المجاعة، وتنتشر الأمراض والأوبئة، وتنهار القيم والأخلاق إلى الدرك الأسفل! يضاف إلى ذلك ما تنفثه "مؤسسات" قبلية وعنصرية وجهوية ومحسوبية، من سموم في جسم المجتمع، وما تسببه مخلفات ورواسب عبودية، لا تزال تنخرنا، من انفصام، عرى، وإثارة أحقاد، واستعار فتن.

        تعطيل القانون

        ورابعة أثافي، هذه اللوحة البائسة هي نكران العدالة وتعطيل القانون بفعل تبعية السلطة القضائية للسلطة التنفيذية، ووطأة الحاجة التي لا يوجد القضاة في مأمن منها، واختراق المخابرات للجهاز القضائي واكتتابها لبعض عناصره. الشيء الذي حرم المواطن من خدمات وحماية هذا المرفق الأساسي، وتركه يواجه الظلم أعزل، ومنح الدولة والمتسلطين منزلة فوق القانون.  

        فهل من الغريب أن يؤدي هذا الوضع إلى هزال الجمهورية ومؤسساتها الديموقراطية، وإلى عجزها عن أداء وظائفها الأساسية في تحقيق وصيانة السلم والاستقرار والبناء والعدل والرفاهية وحماية مجتمعها من الزلازل والانقلابات عن طريق التناوب والانتقال السلمي للسلطة ؟ وأي دور يمكن أن تضطلع به إذن صناديق الاقتراع المسكينة في مثل هذا الوضع؟ ومن أين لنا المواطن الحر الواعي صاحب المصلحة والصفة؟!

طريق واحد

        لقدبلغ السيل الزبىليلة 8 يونيو حين غابت الدولة، وكادت البلاد تنهار! لم يعد هناك مجال للتسويف أو التمويه واعتماد الرقى التقليدية التي ثبت فشلها وغباؤها! بل لا بد من علاج شاف كاف يمنع تكرار ما جرى!

        لا يمكن حصر الطرق المؤدية إلى الهاوية. وقد مشيناها، وقطعنا أكثر من نصف المسافة فيها! وما تزال البطانة تدعونا إلى المواصلة حتى النهاية! وكدنا نصل إليها تلك الليلة!

        لن أتحدث عن أي من هذه الطرق التي تتجلى معالمها في مواصلة نهج ما قبل الزلزال، وتجسدها اليوم "مظاهرات التأييد" البعدية التي تترجم عجز السماسرة وحيرتهم ومحاولاتهم اليائسة لاسترداد ما كان لهم من نفوذ وظفوه في نهب وتخريب البلاد، كما تجسدها دعايات الفتنة القبلية والجهوية وصيحات الانتقام التي يطلقونها! كل ذلك من أجل حرف البلاد عن المسار السليم، وشغلها عن اغتنام فرصة ثمينة سانحة للتأمل فيما حدث واستخلاص العبر منه.  

إنه العمه والتمادي في الضلال القديم!

 أما سبيل النجاة، في نظري، الذي سأتحدث عنه وأدعو إليه، فمن معالمه الملحة: 

1. تحرير كافة سجناء الرأي والقرابة بدء باشبيه بن الشيخ ماء العينين الذي سجن وأدين ظلما، ثم الشيوخ والأئمة والدعاة الأجلاء!

2.فتح حوار عاجل بين كافة الفعاليات السياسية والاجتماعية الحقيقية في البلاد يعمل على  وضع وإعلان ميثاق وطني ملزم هدفه المصالحة والوحدة من أجل إنقاذ الوطن بصورة ديموقراطية. وتكون المحاور الرئيسية لهذا الميثاق هي:

* تحقيق المصالحة والوحدة الوطنية. وفي سبيل ذلك تتم في إطار ملائم: 

- تصفية بقايا الرق. وإعادة الاعتبار للفئات التي عانت منه. ووضع برامج جدية لتأهيلها وترقيتها. ثم تقديم الاعتذار لها باسم كافة المجتمع! وتشجيع الاختلاط بينها وبين باقي المجتمع! فمشكلتنا الأولى هي هذا العار وما يمكن أن ينجم عنه!

- تقديم الاعتذار كذلك باسم كافة المجتمع إلى ضحايا العهد الاستثنائي خاصة ضحايا 1990 والتعويض لهم أو لذويهم بصورة عادلة. 

- إصدار عفو شامل كعفو 1984 يستمد شرعيته من إجماع الأمة المتصالحة.                     

- منح حصانة، من الأمة المتصالحة، للمسؤولين بمنع متابعتهم مدى الحياة!               

- سحب كافة الشكاوى المرفوعة أمام المحاكم الدولية من مسؤولين موريتانيين مهما كان سببها!

* إرساء الديموقراطية ودولة القانون. وفي سبيل ذلك:

ـ إجراء تعديل دستوري يحد شغل منصب رئيس الجمهورية بفترتين رئاسيتين من خمس سنوات، كما في معظم ديموقراطيات العالم بما فيها بعض الدول المجاورة.  

ـ تنظيم انتخابات حرة ونزيهة تحت إشراف لجنة انتخابية نظيفة تمثل فيها كافة فعاليات المجتمع.

ـ مراجعة معايير تولي مناصب أجهزة الدولة بحيث تصبح الكفاءة والنزاهة هي المعتبرة، وتطبيق مبدأ المكافأة والعقاب.

ـ اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لضمان حياد الإدارة وكافة أجهزة الدولة، وأن يكون ولاؤها للجمهورية لا لفرد أو جماعة.

ـ وقف دوامة الاعتقالات الموسمية، والمحاكمات الصورية.

ـ إنهاء احتكار الإعلام الرسمي من طرف فئة واحدة، وتحويله من أداة للتجهيل والتدجيل إلى أداة تخدم المجتمع وتطرح قضاياه الأساسية. السماح بإقامة إعلام سمعي بصري حر. إلغاء المادة 11 من قانون الصحافة."مصادرة" صحف المخابرات والمرتزقة!

ـ إصلاح القضاء والمحاماة وضمان استقلالهما عن كافة السلطات.

ـ اتباع سياسة خارجية وطنية!

ـ إعادة الاعتبار إلى الجيش. وتحسين ظروفه. وضمان وحدته وحياده. ليظل حاميا قويا للوطن والديموقراطية. 

* بناء اقتصاد وطني. وذلك بالعمل على:

ـ حماية المال العام، وإنزال أقسى عقاب بمختلسيه ومبذريه!

ـ حماية الثروات الطبيعية والبيئة.

ـ تطوير الزراعة والصناعة، حتى نأكل ونلبس من عمل أيدينا وإنتاج أرضنا، كما في الدول الفقيرة المجاورة: مالي والسنغال مثلا.

* إصلاح المجتمع والعناية بالإنسان، من خلال برامج جدية تسعى إلى:

ـ إعادة توزيع الثروة توزيعا عادلا، والقضاء على المجاعة، والحد من البطالة.                                                       

ـ تفعيل ودعم النقابات وهيئات المجتمع المدني حتى تتمكن من القيام بدورها الاجتماعي.

 ـ العناية بالنساء والشباب والأطفال.

 ـ ضمان تكافؤ الفرص أمام الجميع.

ـ إصلاح التعليم.

- توفير الرعاية الصحية.   

بهذا الحد الأدنى وحده، الذي أجمعت على معظم محاوره، لحد الآن، كافة الأحزاب والمفكرين والمحللين والمعلقين (انظروا القلم ولا تريبين وأقلام والصحيفة وأخبار نواكشوط وغيرها)، يمكننا تجاوز مرحلة الخطر، والعبور بمجتمعنا الفاضل، الذي لا يستحق ما هو فيه من ذل وهوان، إلى بر الأمان!

وشهد شاهد من أهلها: "لقد آن الأوان أن نضع النقاط على الحروف، ونكشف زيف الشعارات التي يتشدق بها المطبلون والمصفقون الملتفون حول النظام والذين يسيرون بالبلاد إلى حافة الهاوية، فكادت بسبب مؤامراتهم الدنيئة وحجبهم للحقائق أن تنزلق في وضعية خطيرة الخاسر الأكبر إثرها هو الشعب الموريتاني، فعلى الجميع أن يعرف أن مصلحة موريتانيا فوق كل اعتبار، وأنه لا شيء أهم من الاستقرار والتناوب الديموقراطي بشكل سلمي، بعيدا عن الانقلابات العسكرية وإراقة الدماء" (يحي ولد الحمد الصحيفة العدد71). 

ترى أيهما أولى وأسلم وأنفع؟ الحكم بالحب والعدل أم بالعصا والمدفع!

 

نواكشوط 10 /6/ 03

 

(نشر في معظم الصحف العربية الصادرة إثر محاولة انقلاب 8 - 9 /6/ 03 وفي كتاب "حتى لا نركع مرة أخرى" الذي اتخذ من عنوانه عنوانا له)