حرب حزيران على إحدى الجبهات (ملف خاص 2)

محمد ولد أحمد ولد الميدّاح

المكان: المذرذره...

الزمان: 5 يونيو 1967

في الصباح الباكر، وأنا في طريقي إلى المدرسة، لاحظت أن حدثا مهما وقع، أو هو على وشك الوقوع... المدينة استيقظت أسرع من وقتها المعتاد، والسكان في حالة استنفار قصوى.

كنت منذ أيام ألتقط ما يقوله الكبار، وسجلت اهتمامهم الزائد بالإذاعة وبـ"صوت العرب من القاهرة" على وجه الخصوص.

الحماس هو سيد الموقف: زغاريد هنا وهناك... هتافات... شعارات تتردد على أفواه المارة... ما الذي حرك سكان عاصمة ايگيدي فجأة وهم المعروفون باللامبالاة و"تزواز لخلاگ ؟

لم يكن ذلك بمناسبة استقبال وفد حكومي ولا حملة انتخابية... فما هو يا ترى؟ إنها الحرب التي اشتعلت في الشرق الأوسط! العالم العربي يصحو وسيستعيد فلسطين السلبية.

كان يوما استثنائيا في المذرذره وكنا نحن، تلاميذ الابتدائية، أشد الناس حماسا... فقد شرح لنا "شيوخنا" ما يجري وقمنا - على طريقتنا- بالمساهمة في المجهود العربي الموحد، فأمطرنا قاعات الدراسة بالحجارة وتفرقنا في الشوارع مكررين: جمال... جمال ... جمال!

كل الكبار مشغولون بمتابعة الأنباء التي تتدفق أولا بأول عبر الإذاعة الوطنية، وكانت تبث تقارير عن المعارك الدائرة وأناشيد حماسية وموسيقى عسكرية...

ما زلت أتذكر الشعارات التي كان المذيعون يرددونها عبر الأثير، وكنت أظن أنهم يراسلون من ساحة الوغى... كانت أصواتهم جميلة ومعبرة عن جسامة الموقف...أذكر منهم السيدين افال بابا (بالفرنسية) ودحنه حمود والمرحوم محمدن ولد أحمدو سالم (بالعربية).

لا صوت يعلو فوق صوت الرصاص واهتمام السكان بجبهة القتال: أخي الأكبر الحضرمي - أطال الله بقاءه- يضع مذياعا صغيرا على أذنه ويتفاعل مع الأنباء الواردة تفاعل من يتابع مباريات رياضية ساخنة...

الأخت المرحومة محجوبة تقف في منتصف الشارع الكبير صحبة جمع من نساء الحي وتشدو بصوتها الشجي من مقام "فاغو" في أعلى "آزاي" سمعته في حياتي:

في الجبن عار وفي الإقدام مكرمة ** والمرء بالجبن لا ينجو من القدر..."

سبعيني في أوج الحماس ينظف "خماسية" قد صدئت وطال عهده باستعمالها...

كان الرجال كلهم يتمنون لو طاروا بلا أجنحة لأخذ الثأر من جيش الاحتلال... وبعض الشباب يتوجهون إلى مكتب حاكم المقاطعة ويطلبون منه بإلحاح أن يرسلهم إلى جبهة القتال لمد يد العون لإخوانهم المصريين والسوريين والأردنيين.

أمضى جنودنا المجهولون يومهم الأول وهم في الخطوط الأمامية، مستأنسين بما تنقله الإذاعة من بشائر، وبما ينسجه الخيال من مُنًى سرعان ما يعتبر مروجوها أنها حقيقة..

و شيئا فشيئا بدأ صوت البي بي سي في لندن يعلو على صوت العرب في القاهرة وجاء الرأي الآخر مبددا الحلم الجميل ومخلفا في المنازل والشوارع شعورا بخيبة الأمل  وسحبا داكنة من الحزن والأسى.

وجاء الخبر اليقين: أمريكا تتدخل بقوة والعرب يعدون الخسائر: تدمير 70 - 80% من العتاد الحربي و25000 قتيل ومئات الآلاف من الجرحى، وإسرائيل تحتل قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء والضفة الغربية - بما فيها القدس الشرقية- وهضبة الجولان...

ثم جاءت الطامة الكبرى: الرئيس جمال عبد الناصر يستقيل ويقترح لخلافته صديقه زكريا محيي الدين.

و"انتبهت" المذرذره " بعدما زال الرحيق وأفاقت ليت أنها لا تفيق"...

أما الأمة العربية، فقد شُغلت ردحا من الزمن بقرار الأمم المتحدة رقم 242 و"قمة اللاءات الثلاث" (قمة الخرطوم) و"الأرض مقابل السلام" "وأوسلو".. إلى آخر المهدئات.

وأخيرا، وبما أن الشعر ديوان العرب، فقد اتفقوا على تفعيل نصيحة إبراهيم ناجي في قصيدة الأطلال:

فتعلم كيف تنسى ** وتعلم كيف تمحو

ولن أنهي هذا المقال بمسحة تشاؤم وقد تفاءل شاعري المفضل، المرحوم نزار قباني  في نهاية البائية التي يخاطب فيها تونس الخضراء:

فلربمـــا تجد  العروبة نفسهــــا ** ويضيء في قلب الظلام شهاب

ولقد تطيـــر من العقــال حمامة ** ومـــن العباءة تطلـــع الأعشاب.

نشر أولا بتاريخ 15 يونيو 2020