أمين الزاوي*
"من لا يعرف البخاري الموريتاني لا يعرف دمشق".
هذه العبارة ليست مبالغة أبدا، يعرفه جميع المثقفين والصحفيين والجامعيين ورجال المخابرات وأصحاب المطاعم والخمّارات، اسمه محمد البخاري، على سنة جده المثقف والأديب الأمين الشنقيطي جاء الشرق في بداية السبعينيات واستقرت به الأيام بدمشق، وحين غرق فيها، عشقها فلم يستطع مغادرتها، ماتت أم محمد البخاري الشاعرة الشعبية بضواحي انواكشوط؛ والتي كثيرا ما حدثنا عنها وقرأ علينا من قصائدها. بكاها بحرقة حين جاءه خبر موتها ولم يتحرك ولم يفكر في الرحيل عن مدينة محيي الدين بن عربي؛ بل بعد رحيل أمه أصبح أكثر ارتباطا بدمشق. سكن البخاري في كثير من أحياء المدينة: ركن الدين والتجارة والتضامن والحريقة والمهاجرين وشارع بغداد وعرنوس وغيرها؛ شأنه شأن جميع الطلبة القادمين للدراسة بجامعة دمشق، كان سكنه إما قبوا من أقبية البنايات أو سطحا من سطوح عماراتها الشاحبة بسواد المازوت، وكان دائما سعيدا مبتسما جاهزا للجدل والنقاش في الفلسفة التي نال فيها درجة الليسانس وفي الأدب الأمريكو-لاتيني وفي الترجمة.
محمد البخاري هذا الذي أحدثكم عنه ليس شخصية روائية أو خيالية، هو الحقيقة التي يلتقي فيها الخيال حيث تتبدى الحدود بينهما، لم أعرف شخصا أنحف من البخاري، كان عبارة عن هيكل عظمي يمشي، ولكنه لم يَشْكُ يوما ألما ولا مرضا، ولا حتى وجع الرأس، ولم ينسحب يوما من سهرة - ولو طالت- حتى مطلع الفجر. بصحة جيدة دائما، يأكل أكل الطير؛ بل ينقر من صحنه أقل ما يمكن تصوره ويشبع، وبدمشق لم أعرف شخصا مثقفا ممن عرفتهم - وهم مئات- بذاكرة تشبه ذاكرة البخاري، كان يحفظ كثيرا من شعر أمه، ويحفظ مقولات الفلاسفة وقصائد الشعراء العرب من أجيال مختلفة، ومثلها يحفظ بالفرنسية وبالإسبانية، اللغة التي تعلمها في أواخر أيامه؛ وفي مدة قياسية لا تزيد عن بضعة أشهر، ومنها ترجم كتابا مهما إلى العربية.
يعرفُ الجميعَ من ساكني دمشق أو من جاؤوا إليها من مسلمين سنة وشيعة ودروز ومسيحيين وأكراد وأرمن وغيرهم، ويعرفه الجميع من هؤلاء. وأزيد، لا ينسى أحدا ولا يسقط من ذاكرته اسم. يرحل ناس إلى مدن وبلدان، ويهاجر آخرون من دمشق وإليها، والبخاري باق كقوس من أقواس مسجد الأمويين بالحميدية، أو كعمود من أعمدة كنيسة العذراء بحي باب توما.
تعرفت على البخاري أول مرة بمهرجان السينما الدولي بدمشق بصالة السينما السفراء، وفي غياب الدبلجة والترجمة المكتوبة لبعض الأفلام الفرنسية فقد كلف المنظمون البخاري بأن يقوم بالترجمة الفورية، من الفرنسية إلى العربية، على كرسي خشبي في ركن مظلم يجلس البخاري قبالة الشاشة يتابع كما يتابع الجميع الفيلم، ويترجم من خلال مكبر صوت في يده، كان الأمر مثيرا في نظري، والأكثر إثارة أن جميع المشاهدين الذين يتابعون عرض الفيلم كانوا يعرفونه وينادون باسمه. يهتفون عاليا حين يتضمن الفيلم لقطة ساخنة فيسكت البخاري عن ترجمته أو يقوم بذلك برمزية وتورية وابتسامة… فتصرخ القاعة: "لا يا بوخاري لا يا بوخاري.. مو هيك"!!
كان سفيرا مغاربيا أكثر من أي سفير من سفراء المغرب الكبير.
كان البخاري يقول: في هذا البلد (يعني سورية) حاوِرْ الجميعَ واختلِفْ مع الجميع، ولكن لا تحاورْ المخابرات ولا تختلفْ معهم.
كان يتكلم اللهجة الدمشقية على الأصول، والحلبية، ولهجة دير الزور، ولهجة دروز السويداء. من دخل مدينة دمشق من العرب أو المغاربيين عليه أن يدخلها من باب البخاري؛ فهو الذي يوصله للمؤسسة المطلوبة، وهو الذي يُعَرِّفه بالأشخاص والشخصيات التي يرغب في لقائها أو التعرف عليها.
كريم، فقد عاش البخاري فرِحًا مبتهجا، إذا مَلَكَ فلسا صرفه في يومه ليصبح في اليوم التالي على الصفر، ولكنه لم يكن محتاجا يوما، ولم يمد يده لأحد يوما. كان قادرا على ترويض نفسه وتطويع حياته كما يريد.
لنحافة جسمه كان بعض الأصدقاء الكُتّاب والفنانين يسمونه "البخار" فهو قادر على التبخر في كل لحظة. كان مثقفا عقلانيا عميقا، لكنه ظل شفويا لا يكتب. صادَقَ أكبر الأسماء في الفكر، فكان الصديق الحميم لأكبر المفكرين والفلاسفة، طيب تيزيني، وصادَقَ جلال العظم، وبديع الكسم، ونايف بلوز، وأنطون مقدسي.. وغيرهم. وكان صديق الأدباء أيضا: ممدوح عدوان، وشوقي بغدادي، ويوسف اليوسف، ونبيل سليمان، وحيدر حيدر، وسيف الرحبي، ورياض الصالح الحسين، وخليل صويلح، ورشا عمران، ولينا الكيلاني، ومروان ناصح، وسعدي يوس،ف وبندر عبد الحميد.. وغيرهم.
لم يتحمل البخاري انهيار القيم بدمشق والانحطاط الذي بدأ يأكلها فسلم نفسه للموت، ما كان عليه أن يموت وهو العاشق، لولا أنه شعر بأن المدينة التي جاءها في مطلع السبعينيات لم تعد هي نفسها مدينة الألفين. كل شيء فيها انهار، حتى اللغة الدمشقية التي تشبه تغاريد الطيور اخترقت وتلوثت بلهجات البدو وسائقي التاكسيات العنيفين وسباب المجندين واعتداءات سرايا الدفاع.
حين شعر بأن الياسمين الدمشقي الذي تحدث عنه ورفعه عاليا الشاعر نزار قباني في أجمل قصائده.. حين شعر بأن الياسمين قد فقد عطره وسحره ونساءه أمام رائحة البارود والكراهيات مات البخاري الموريتاني.
حين أصبحت مطاعم دمشق: اللاتيرنا، والريس، ومكسيم، والفريدي، وعلي بابا.. وغيرها، حين أضحت شبيهة بمطاعم أي مدينة خرساء في الشرق أو في الغرب، في الشمال أو الجنوب، تُقَدِّمُ عَلَفًا ولا تقدم فَنًّا، ولم تعد مقاهي المدينة - كمقهى الروضة، أو الهافانا والنوفرة- فضاء للمثقفين والعلماء واللغويين والسياسيين والأدباء، حزن وانسحب إلى شقته بعرنوس ومات.
حين شعر بثقافة الكراهية والطوائف ترتفع قليلا في الجامعة والمؤسسات لتصل إلى بائعي السجائر على الرصيف، انسحب وأسلم الروح لباريها.
مات البخاري حين شعر بأن هولاكو جديدا قد دخل الشام واستباحها.
قال لي صديق مشى في جنازته: حين دفناه وعدنا، قلت لمرافقي: هل مات البخاري حقا؟ أليس موته كذبا أو مزحة وأننا سنجده في مطعم الرواق أو مطعم نقابة الفناين يناقش كعادته هذه الليلة؟
وفي المساء، حين دخلنا المطعم لم نجد البخاري الموريتاني. كانت طاولته يتيمة، وإذ تأكد لنا موته تأكد لنا أن دمشق - هي الأخرى- ماتت.
* كاتب روائي وأكاديمي من الجزائر