نهاية الغرب: هل نحن على حافة تحول عالمي؟ (1)

 

رفيق عبد السلام

(وزير خارجية تونس الأسبق)

لا يخفى على المراقب أن الكثير من الأدبيات الأمريكية والأوروبية باتت تتحدّث بصورة متزايدة عن تراجع الغرب، بل اتخذ بعضها عناوين مثيرة من قبيل موت الغرب، ونهاية الغرب، وانتحار الغرب، وسقوط الغرب.. وما شابه ذلك.

سبق للفيلسوف والمفكر الألماني شبنجلر في أربعينيات القرن الماضي أن نشر كتابه الشهير "انحطاط الغرب" ولكن ذلك كان بمثابة منبّه عام مما عساه يعتري هذا الغرب من خطر السقوط الذي يعرض لكل الحضارات والأمم، أكثر من كونه توصيفًا لواقع فعلي للغرب الأوروبي والأمريكي الذي كان في صدارة عنفوانه تقريبًا.

ومع ما أصاب الغرب من إنهاك بسبب حربَيه الطاحنتين، فقد حافظ على حيويته الفكرية والسياسية وقوته العسكرية؛ خاصة أن مخزون الطاقة التي يمتلكها الغرب الأوروبي قد انتقل إلى الضفة الشمالية الأطلسية من دون منازع جدّي (أمريكا).

 

الغرب في مواجهة "الآخرين"

بيدَ أن ما يكتب اليوم وينشر عن سقوطه، يتجاوز نطاق الإشارات والتنبيهات التي أثارها شبنجلر من قبل، بقدر ما يتوقف عند المعطيات والتوازنات.. فقد بات الغرب الأوروبي والأطلسي يواجه اليوم منافسة جيدة من قوى كبرى، ليس بالضرورة لأنه فقد عنفوانه وقدرته على الابتكار، ولكن لصعود قوى أخرى تسعى لكسر الاحتكار العلمي والتقني وانتزاعه من بين يديه.. قوى باتت تنافسه على صعيد التسلح والجيوش في ظل عالم يتّجه نحو مزيد من التنوع والتعدد، من الصينيين والروس والهنود إلى البرازيليين والأتراك والإيرانيين وغيرهم؛ وذلك في إطار معادلة سبق أن سماها فريد زكريا "الغرب والآخرون" (The West and the Rest.).

ولا نعلم إن كان من سوء حظ العرب والمسلمين أو من حسنه أن توالت عليهم موجات العدوانية الغربية تباعا، كلّما دفعوا منها حلقة جاءتهم أخرى، فإذا بموعودات التحرير التي دوّنها رجال الأنوار تستحيل في أرضهم إلى احتلال مقيت، وإذا بالديمقراطية الموعودة تستحيل وطأة ثقيلة من الاستبداد السياسي المدعومة أمريكيًا وغربيًا.

ولعل الوجهين الأكثر كثافة اليوم لتلك الهوة السحيقة التي تفصل بين دعاوى الحداثة الغربية في الحرية والتحرير وبين تجسّداتها العملية في منطقتنا العربية هما مشروع الاحتلال الصهيوني لفلسطين وما يلقاه من أشكال الدعم الخفي والمعلن من القوى الغربية، وفي مقدمة ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، ثم ما رآه العراقيون وشعوب المنطقة من مظاهر الترويع والعنف خلال الاحتلال الأمريكي للعراق، وقبله لأفغانستان.

في وقت كانت أصوات بعض المنظّرين الغربيين والأمريكان تتعالى مؤكدة انتصار القيم الثقافية الغربية واكتساحها الضارب لكل مناحي المعمورة، كانت مظاهر العنف في العراق تزداد شراسة على شراستها، وتزداد معها عوامل النقمة والشكوك بين مختلف شعوب العالم في مدى جدية وصدقية القيم الثقافية والسياسية التي تبشر بها العواصم الغربية، حتى لكأن أول مهمات الآلة العسكرية الأمريكية التشكيك في عالمية القيم الليبرالية الأمريكية وتفكيك دعاواها التحرريّة.

 

الانكشاف الأخلاقي

إن الاختبار الأكبر لمدى جدية أي قيم سياسية وثقافية يتعلق بمدى التزام الحاملين لها والمبشّرين بها في سلوكهم وسياساتهم في فترات العُسرة والحروب، وفي مقدمة ذلك قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. وقد شهد العالم كيف أدار بعض الديمقراطيات الغربية آلته الحربية ضد العراق بأساليب الخداع ومخاتلة مواطنيها ومخادعة الرأي العام، وكيف تحولت أم "الديمقراطيات الليبرالية" إلى آلة ضخمة من الرقابة الأمنية والأكاذيب المفضوحة التي تسوّغ شنّ الحرب والعدوان، وانتهاك الحريات وحقوق الإنسان.

ففي الوقت الذي كانت الآلة الإعلامية والسياسية الأمريكية تغلّف أهدافها التوسعية والاستحواذية في العراق عبر تلفيق التهم وفبركة الأدلّة أو الادّعاء بجلب الديمقراطية وحقوق الإنسان، كانت الإجراءات الأمنية والرقابية المقيِّدة للحريات وخصوصيات الأفراد تزداد توسعًا في الداخل الأمريكي نفسه خلال حقبة المحافظين الجدد.. أي أن هذا النموذج السياسي والثقافي الذي يراد تصديره للعالم؛ والذي شُنت الحروب باسمه لـم يستطع أن يصمد حتى في موطنه الأصلي؛ فضلًا عن صموده خارج حدوده القومية.

صحيح أن هذه الهوّة السحيقة بين القيم السياسية والثقافية الغربية، التي تبرز على نحو ما، في الشعارات وحرم الجامعات وفي بطون الكتب، مقارنة بما نراه واقعًا على صعيد الممارسات على الأرض، ليست أمرًا جديدًا أو طارئًا.. فقد ولدت الحداثة الغربية منذ بواكيرها مسكونة بهذا التوتر المستمر بين مطالب التحرر وآليات الهيمنة والإخضاع في الداخل وبصورة أوضح في الخارج.

ولسنا نضيف جديدًا في تبيان هذه الهوة السحيقة التي تفصل بين الجانبين؛ فقد سبق للفيلسوف الألماني هابرماس أن فصل القول فيما سماه بالهوة السحيقة التي باتت تفصل بين مبشّرات المشروع الثقافي الأنواري في التقدم والتحرير والعقلنة، وبين مشروع التحديث الغربي على نحو ما هو قائم على أرض الواقع، وما لازمه ويلازمه من مظاهر التشوه والانحراف؛ وهو ما سماه الفيلسوف الفرنسي بول ريكور التفاوت بين طوباويات الحداثة ومحصول الحداثة.

 

ماذا يعني موت الغرب؟

كانت ولادة الغرب الحديث واكتسابه طابع العالمية يوم شيوع الحلم الليبرالي الغربي في التقدم والتحرير، كما أن نهايته - أو موته- ستكون بموت هذه الأحلام والأوهام التي صنعها وروّجها عن نفسه وصدّرها لغيره في مختلف مناحي المعمورة الكونية، وحينما نتحدث عن نهاية - أو موت- الغرب هنا لا نعني بذلك نهاية ماديّة موضعية جغرافية قد تواضع أهلها والعالم على تسميتها بالغرب؛ بل نعني بذلك على وجه الدقة نهاية ادعاءاته الكونية بعد إرجاعه إلى نسبيته التاريخية ومحدوديته الثقافية، شأنه في ذلك شأن الظواهر التاريخية الكبرى التي تولد وتحيا ثم تموت؛ مع تقدير قيمة ما يمتلك منها صلاحية كونية عابرة للثقافات ويحمل قابلية الاستمرار.

لا شك أن الحضارة الغربية الحديثة عظيمة في منجزاتها وملهمة في مُثُلها، وقد تركت – وستترك- بصماتها في مختلف قارّات العالم لآماد طويلة من الزمن؛ ولكنها تظلّ - في نهاية المطاف- حضارة مهمّة من بين حضارات أخرى، ولن ترتقي إلى أن تكون الصوت الباطنيّ والنهائي للتاريخ، فكما كانت مسبوقة بمنجزات كثيرة لحضارات أخرى، فستتلوها ضرورةً منجزات وتأثيرات حضارية لاحقة لها.

صحيح أنّ الغرب الحديث بما حقّقه من امتلاك ناصية العلم والتكنولوجيا، وبما يختزنه من منظومة قيمية ورمزية ذات ادعاءات عالمية، قد أشاع الكثير من مكاسبه وثمراته في مختلف قارات العالم، بقدر ما أورث نفسه وأورث الآخرين الكثير من ندوبه وأمراضه، ومن مظاهر ذلك النظرة الإجرائية والمادية للكون، وما تولّد عنها من إفساد للكوكب وتخريب للبيئة وشنّ الحروب، إلى التوسع في أدوات القتل والفتك، إلى النزعة الفردانية المتطرفة وطغيان التوجهات العدمية وغيرها. فيكاد لا يَسْلَم أحد اليوم من هذه الظواهر؛ إن قليلًا أو كثيرًا.

فالعالم بكل تنوّعاته وتعقيداته لا يمكن أن يتغرّب على المنوال الأوروبي والأمريكي، ليس لأنه يرفض أن يكون كذلك؛ بل لأن الغرب الحديث نفسه لا يقبل أن يفكّك المسافات الثقافية والأخلاقية والمادية التي تفصل بينه وبين الآخرين. فشرط من شروط وجود ما يسمى بالغرب واستمراريته هو تأكيد هذه الثنائيّة الحادّة، أي التّشديد على تميّزه عن الغير ورسم حدوده القاطعة مع الآخرين.

فالعالم مثلًا لا يمكن أن يتحول ديمقراطيًا ليبراليًا على الطريقة الأمريكية أو البريطانية، ليس لأنه يرفض قبول القيم الديمقراطية كما يزعم الكثير من الأدبيات الليبرالية الغربية؛ بل لأن المركز الغربي نفسه المتحكم والمهيمن لا يحتمل عالمًا ديمقراطيًا وليبراليًا على شاكلته في كل مكان، لأن ذلك يفضي ضرورة إلى تعميم فوائد الليبرالية من رفاه مادي وحرية سياسية لتشمل الجميع، مع ما يتولد عن ذلك من محو الحدود الفاصلة بين الأصل والفرع، وبين المركز والأطراف من جهة، وبين ديمقراطية الغرب وديمقراطيات العالم الواسعة من جهة أخرى؛ أي انتفاء مبررات التمايز أصلًا وغياب ثنائية "نحن" الديمقراطيون، مقابل "هم" غير الديمقراطيين.

هذا الأمر شبيه من بعض الوجوه بوضعية إسرائيل التي لا تستطيع أن تعيش طويلًا في محيط عربي ديمقراطي من حولها، لأنّ ذلك ينزع عنها نظرية الاستثناء وطابعها "الخارق" للجغرافيا والتاريخ؛ وهذا ما يفسّر مقاومتها للتوجهات الديمقراطية في المنطقة.