في تأبين معالي الوزير الأستاذ محمد فاضل ولد الداه

 

انتقل إلى رحمة الله في فرنسا، حيث كان يتعالج من داء ألمَّ به؛ أخي ورفيقي وصديقي العزيز محمد فاضل ولد الداه!

وكم وددت وتمنيت عندما جاءني نعيه أن أكون في مقدمة مستقبلي جثمانه الطاهر في أرض الوطن، والمصلين عليه ومشيعيه إلى مثواه الأخير. وذلك لأسباب تختلف كليا عن أسباب الآخرين! أسباب نعرفها ونقدرها كلانا، وتعرفها كذلك وترعاها ثلة من أصدقاء الزمن الغابر، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر! ولكن الله شاء غير ذلك، فقد كنت خارج البلاد!

وكم آلمني قرار عائلته الكريمة عدم استقبال التعازي في منزل الأسرة العامر. وزادني ألما عدم وجود رقم أتصل بهم عليه كي أبوح ببعض ما لدي من بث وحزن!

وها أنا ذا أحاول عبر هذه الكلمات - وقد ذهب زبد تـأبين المناسبات جُفاء، وجف حبره غير اللاصق - أن أوفي فاضلا شيئا من حقه!

الجذور

ما زلت أتذكر حين التقينا أول مرة في النصف الأخير من سنة 1963 في قرية نواكشوط (العاصمة) الوليدة القابعة يومئذ في حيز ضيق من "آفطوط" قبل أن تتمدد إلى "آمكرز" بين ربى وشجيرات طرفاء ويتوع ظلت لقرون كثيرة وكرا للذئاب؛ تحدها رئاسة الجمهورية الحالية من الشمال، ومدينة G من الجنوب (لم تكن المدائن الأخرى 3، R، L مثلا، وقيادة الحرس ودار الشباب وكلينيك قد وجدت بعدُ) والوزارات من جهة الشرق (كان ما بين الوزارات والمسجد العتيق – ابن عباس، وما بين ابن عباس والمطار ولكصر يبابا بلقعا لم يڴزره ڴازر ولم يذكره ذاكر) وسوق العاصمة الحالي من جهة الغرب. وكيف انتظمنا في شلة من خمسة أفراد هم: الشاعر أحمدو ولد عبد القادر، وهو، ومحجوب ولد بَيَّه، وأحمد ولد الوافي، وأنا، اتَّخَذَت من الشقة الوسطى العليا من الكتلة الوسطى من "بلوكات الحمر" منتدى لهم.. وشكلت - دون أدنى مبالغة- شرارة التغيير والمعاصرة والانعتاق في موريتانيا!

براعم غضة قذف بها الريف من كل حدب وصوب إلى حيث مشروعي الدولة والعاصمة الوليدتين!

ومع ذلك فقد كانوا، رغم صغر سنهم وجهلهم بأبسط نواميس العصر، وتخلف بلادهم وقلة إمكانياتها وانعدام وسائل الحياة الحديثة فيها، يحملون راية وطن وهَمَّ أمة وأحلام عالم: يعادون الاستعمار والصهيونية ويسعون للإطاحة بجبروتهما، ويدعون إلى الثورة، ويؤمنون بالعروبة، ويَحْنُون على الفقراء والمستضعفين!

كانوا في منتهى البراءة والبساطة والإخلاص لِمُثُل الخير: لا يطمحون إلى شيء من متاع الدنيا المتاح بين أيديهم، ولا تأخذهم فيما يؤمنون به من مبادئ وقيم وأخلاق لومة لائم! خلافا لما عليه أغلب شباب اليوم! ولم يكن ذلك لأنهم من غير طينة البشر؛ بل لأصالة وصدق وطهارة وورع المجتمع الموريتاني آنذاك، ووطنية وجد أولي أمره على علاتهم!

وكانوا ينشدون في ندواتهم هذه الأبيات الجميلة اعتزازا بوسطهم الاجتماعي:

في الشوك عشناها وفوق الصخـــــــــر أعواما طوالا

وعلى الحصير حصير آبـــــــــــــائي تعلمت النضالا

أنا ثـــــــورة قوميــــة      عربيــــة تأبى انفصـــــالا.

ويتساءلون مع الشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي، وأنظارهم شاخصة غربا إلى مبني السفارة الفرنسية الحاكمة:

فما شأن ذياك السفير الذي له    على الجانب الغربي قصرٌ مُشَيَّدُ

ويتمثلون في سعيهم بقول الشيخ الإمام محمد عبده:

مجدي بمجد بلادي قمت أطلبه     وشيمة الحر تأبى خفض أهليه

وكل همهم تحرير وطنهم الغالي من أغلال الاستعمار الجديد والتخلف والانحطاط، وإنهاء سيطرة اللغة الفرنسية والحصار المضروب بين موريتانيا والأمة العربية.

يرتعون تارة في كنز من الأناشيد والأغاني الوطنية العربية جلبته معي من جزائر الثورة التي كنت أنا والنائب خطري ولد باب حمو رحمه الله أول وفد موريتاني رسمي يزورها بعد استقلالها بدعوة رسمية، ويمثل موريتانيا في أول احتفال بعيد الثورة يقام بعد الاستقلال. وقد رأى ذلك الكنزُ الطريقَ إلى المستمعين عبر الإذاعة الوطنية بعناية وفضل السيدين روابح وخي باب شياخ (أطال الله عمر الأول ورحم الثاني) فبث روح الحرية والانتماء القومي في النفوس!

ويسكرون خاشعين تارة أخرى بأنغام رائعتي أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب "أنت عمري" و"لا تكذبي" الجديدتين، ويتمايلون على أنغامهما الساحرة في ندواتهم كما تتمايل أخواط البان في مهب الرياح.. ويرفعون قبضاتهم وتتعالى صيحاتهم في أغلب الأحيان دونما نزق، تفاعلا مع أناشيد "الله أكبر" للمجموعة، و"هذه أرضي أنا وأبي ضحى هنا" لفايده كامل، و"الوطن الأكبر" لكوكبة من أشهر الفنانين العرب، ويستبد بهم هُم الأسى لعدم وجود فنان موريتاني من بينها. وكيف يكون ذلك واسم موريتانيا لا يرد أصلا في كلمات ذلك النشيد؟ ثم من يا ترى الفنان الموريتاني الذي يرشحونه آنذاك لمجاراة عبد الوهاب وعبد الحليم وصباح ووردة؟

"كم بنينا من خيال حولنا

ومشينا في طريق [شائك] تثب [العزة] فيه حولنا

وضحكنا ضحك طفلين معا    وعدونا فسبقنا ظلنا".

وقد وثق أحد أفراد الشلة هذه الحقبة من زاوية ذكرياته عنها فقال: "... وهكذا ظل الشبان المنبهرون يهزون رؤوسهم ويرفعون قبضاتهم إلى السماء على ألحان وأنغام المطربة فائدة كامل المجلجلة ونشيد الثورة الجزائرية... ويبقى الفونوغراف طافقا في دورانه، لساعات وساعات متوالية؛ والشبان يتلهفون بعطش حارق إلى محتويات الكتب الجديدة، تتناهبها مفكراتهم الطريفة، يتقارضون أو يتطارحون الشعر إنشادا وإنشاء. وتتقولب أذواقهم وخياراتهم، بشكل لا رجعة فيه؛ مؤذن بإضافة شيء ما إلى المجتمع والثقافة والأدب". (أحمدو ولد عبد القادر، مقدمة أغاني الوطن، صفحتا 10- 11).

يتبع