الحنين في شعر الأستاذ الشاعر محمدٌ ولد إشدو

ارتبط الحنين في الشعر العربي بظاهرة الرحيل التي أسست لشعور وجودي بحتمية التفرق والتلاشي، نعى فيها الشاعر نفسه أكثر من مرة؛ سواء أورد ذلك في جزء من قصيدة كالمُقدمة الطللية، أو أفردت له قصيدة بأكملها، مع أن ذلك نادر.. فلماذا لا يصنف النقاد الحنين غرضا مستقلا كالرِّثاء والمدح.. وبشكل أدق هل الحنين غرض شعري في أدبنا العربي؟

وهل يمكن أن يظل مقتصرا على لحظة فراق دون أن يرتبط ببقية عاديات الزمن، كإِكراه الغربة والسجون والمنافي مثلا، كما سنٌلاحظ في بعض قصائد الأستاذ الشاعر محمدٌ ولد إشدو.

للشاعر محمدٌ ولد إشدو مسار معروف تمثل في خوضه للكفاح السياسي من أجل مشاركة غير من هم في السلطة في التصورات السياسية المصيرية المتعلقة بالدولة الناشئة.

- تأثر ولد إشدو بالطرح القومي اليساري الطاغي آنذاك بعد الثورة الناصرية في مصر؛ حيث شارك في مؤتمر الشباب الموريتاني سنة 1967 في دمشق؛ والذي جاء كرد ضمني على مؤتمر كيهيدي 1964 الذي أقر اندماج كل الأحزاب في حزب واحد هو حزب الشعب بقيادة الرئيس المؤسس المختار ولد داداه.

ولم تكن عجلة التنمية ولا الحريات العامة تسير وفق طموحات الشباب المناهض لفرنسا والمحور الداعم لإسرائيل.

وقد ساعد وجود شركة فرنسية وحيدة للمناجم (ميفرما) على تنامي ظاهرة المناهضة السياسية لفرنسا والنظام الموريتاني الذي تدعمه؛ لما لهذه الشركة من صيت سيئ.

غير أن ولد إشدو اندمج في حزب السلطة بعد تأميم تلك الشركة؛ مما أدى به إلى دخول موجة ثانية من الكفاح ضد خصوم المختار الذين أطاحوا به في انقلاب 1978.

فما كاد ولد إشدو يخرج من مناهضة حكم حزب الىشعب بقيادة المختار ولد داداه حتى دخل في مواجهة مع خصوم المختار الذين أطاحوا به.

وقد خلد تلك المواجهة في أشعار عكست مرارة الغربة والمنافي والسجون، ونسجت خيوط الحنين إلى الحرية ودفء المرابع والخلان. وسنعرض نماذج من شعره الذي يفتك بالوجدان؛ إذ يتحرك فيه الدافع الشعوري ليلوذ بالصور المتخيلة في تحد لمرارة الواقع، فينسج بذلك دراما يتصارع فيها أنس العيش مع وحشته كما سنرى في قصيدتي أسير أغمات وتلمسي.

ولا يقتصر الحنين عند ولد إشدو على مرابع المنشأ؛ بل يتعدي ذلك إلى مرابع الغربة كما في قصيدتي سلام على الفيحاء وبالأحضان اللتيين تخصان -على التوالي- كلا من دمشق وتونس.

يأتي الحنين في أسير أغمات وتلمسي مشحونا بنبرة السخط والأسى اتجاه من أودعوا الشاعر في السجون أو المنافي داخل الوطن.

رسالة من منفى تيشيت

هل تلمسون مع الرمضــاء ذراتي؟ ** أم تسمعون على الأمواج آهاتي؟
وهل إذا برزت شمس الضحى لكمُ ** قرأتمُ في عيون الشمس غــاياتي؟
ووجنة البدر من تيشيت إن طلـعت ** هل تذكــرون بها أحلى حكاياتي؟
هل تذكرون عزيزا كان بينــــــكـمُ ** فأصــــبح اليوم مأسورا بأغمات؟
يمسي ويصبح فيتيشيت معـــتكفا ** يضيّع العــــمر في تلك المـــتاهات
خلالك الجو - يا أقزام- فانتــــفخي ** وجادك الغــــيث يا فئران فاقتاتي..
واستلــهمي الصبر في يوم يعز به ** فـــــــــيوم ثاراتنا - يا هوله- آت!
ويا أحبتنا سقــــــــــيا لعـــــــهدكمُ ** عهد الهنا والوفا.. عهد المسرات!
ما هب يوما نســـــيم نحو أرضكمُ ** إلا بعــــــــــــثت به أحلى تحـــياتي
إني على العهد.. مهما كان بغيــهمُ ** عمري ودهري وأيامي وساعاتي!

يعد المنفى كل ما هو خارج حدود الوطن؛ أما هنا فا الشاعر يسقط صفة المنفى على محل إقامته الجبرية التي فرضتها عليه سلطات هياكل تهذيب الجماهير،ويتأرجح النص بين مستويين من الحنين:

المستوى الأول يخاطب فيه الشاعر مرابع طفولته الغضة وهو الملتحف برمضاء تيشيت في تقابلها الضدي مع أريج البحر..

هل تلمسون مع الرمضــاء ذراتي؟ ** أم تسمعون على الأمواج آهاتي؟

أما المستوى الثاني فينتقل فيه من ذكر عزه في مرابع صباه إلى إدانة الذين أبعدوه عن تلك الديار. (أقزام، فئران) ثم يعود إلى الحنين من جديد (ويا أحبتنا سقيا لعهدكمُ).

غير أن إشدو ما يلبث أن يقضي على الحنين باستحضار أحد لوازمه حين يصف المحبوبة وهي تؤازره..

ضمي الحبـــيب.. وقبليه مرتــــين ** آهٍ.. فما أحـــــــــلى لقاء العاشـــــقـــين!
تأوي القلوب إلى القـلوب سعــــيدة ** وتذوب في الأحـــــضان آلام السنـــين!
إني عهدتك بالمحيط.. فكــــيف في ** هذي المهامه -يا مـــــلاكي- تشرقين؟
أضناك ما يلقى الحبيب من الجوى ** فسموت.. أم عــــنه أتيت تبحـــــــثـين؟
يا وجهها الذهـــــــــبي إني عاشق ** هلا حنوت.. لكي أقــــبل ذا الجــــبـين؟
يا وجهها الذهـــــــــــــبي إني تائه ** هلا أنرت لي الـــــدروب.. فأستـــبـين؟
يا وجهها الذهبي إني عــــــــاكف ** في معبد الذكرى؛ ومحـــراب الحنـــين
أدعو بحمدك ما اتخذت مـــشاركا ** حاشاك لم أشــرك بحــــبي أي حـــــين!
هذا الجمال جمالها وجـــــــــلالها ** وشموخها.. وعـــــطاؤها للعالمــــــين
أين الشفاه الحالمات بنــــــــبعها؟ ** أين اللمى والورد.. أيـــن الياســـمين؟
أين الغـــــــــدائر سربلت أردافها ** أين القوام اللدن في لطــــف وليـــــن؟
أين الملاحة والســــــماحة والوفا** والعطف، أين الدفء أين الغـنج.. أين؟

أما في قصيدته "تلمسي" التي كتبها وهو في السجن الانفرادي في هذه المدينة التي تقع على حدودنا مع جمهورية مالي فإن للحنين بنية فنية مقتضاها الحيرة باستخدام الاستفهام.. والتقابل الضدي بين أريج البحر وفسحته وأنس المرابع وضيق السجن ووحشته.

من عجـــــيب العجيب أن تلمسي ** تصـــــبح اليــــوم ذات شـــــــأن بنـــفسي

ها أنا اليوم في تلــــــمسي أسير ** أي عـــــهد بيـــــني وبـــــــــين تلمــــسي؟

أين مني عرائس البحر؟ أين الـ ** ـگـــــبله مني؟ وأيــــن مســـقط رأســـــي؟

نفحة من عبير تلك الـــــــروابي ** كيف تغــــدو هـــــنا رهيـــنة رمـــــــس؟!

ووميض من فجرها قد تــــــلالا ** كيف يخبو؛ وليـــلها جـــــد مُـــــــــــغْسِ؟!

ونشيد من "مَاغَجُّوگَه" أصــيل ** كيف يحـــــلو دون انتَـــــمَاس وكَــــرْسِ

رب يوم هناك كنت سعــــــــيدا ** بين إنــسي.. وليـــــــــلة طـــــــاب أُنـسي

ألثم البدر في الشفاه رحيـــــقا ** ملء نفسي؛ وصهوة الشــــــــمس كـأسي

لا أبالي بحادثات اللــــــــــيالي ** أنـــفق العـــمر بيــــــن جَـــــنْيٍ وَغَــرْسِ

أقــفرت تلـــــكم الربوع وذلت ** بــعد عــز.. فيـــومها غـــــــير أمــــــــس

"حين غابت بنــــو أمية عنها ** والبـــــــهاليل من بني عبد شــــــــــمس"

"ذكرتنيهم الخطــــوب التوالي ** ولقد تُــــذْكِرُ الخــــــطوب.. وتُنـــــسي".

وتعد كل من قصيدتي "أسير أغمات" و"تلمسي" وليدتي تجربة السجون والمنافي؛ لذلك جاء الحنين مصاحبا لنبرة سخط ضد من أبعدوه عن مرابع الصبى وأريج البحر ودندنة الأنغام (ونشيد من ماغجوگه). أما الحنين في قصيدتي "سلام على الفيحاء" و"بالأحضان" فله ألقه.

يأتي الحنين إلى ربوع الغربة عند ولد إشدو مضمخا بمشاعر الولاء وتعداد المزايا بشكل تراكمي؛ فهو هنا في قصيدة "سلام على الفيحاء"

ســلام على الفيحاء من قلب عاشق ** ســـــلام على أحداقها والحـــــــدائق
ســـلام على نســــــرينها ولبانــــها ** سلام على ريحانـــــــها والشــــقائق
سلام على "قاسْيون" من بعد عهدنا ** به في زمان لائـــق الوصل رائــق
سلام على الآساد في حـومة الوغى ** نماها لعــــــــــلق من أمية صـــادق
أأحبابنا.. هل تذكرون عهــــــودنا؟ ** أم انصرمت من بعدِ تلك المواثـــــق؟
وهل بردى ما زال مثــليَ عــــاشقا ** وفيا يروي بالــــــدموع مشــــارقي؟
لحى الله هذا الــدهر فرق بيـــــــننا ** وأمعن في تشتيــــــــــتنا بالعــوائق!
دمشق التي في القلب مكنون سرها ** وفي مهجتي شوق إليــها ملاصقي
لئن جاد هذا الدهر بالوصل صدفة ** فكم ضن باللقيا على ألـف عــــاشق!

ومن مرابع الغربة التي ألهمت الشاعر قصيدة "بالأحضان" وهي تحية إلى تونس الخضراء بعد فرقة دامت ثلاثا وثلاثين سنة.. إنها تونس التي تحنو على الزائر وتؤنسه؛ لذلك رآها الشاعر هنا "ثاني الأوطان".

عدنا لربعك.. ثاني الأوطـــــان ** لنجدد العهد القديم.. بــــــــثان
عدنا لربعك.. هل تبارك حجنا؟ ** وتحيطنا بالعفو والغـــــــفران؟
هذي حشاشة مهجة تصبو إلى ** هذا الأريج الساحر الفـــــــتان
منه نهلت.. فعــــــــللوني إنني ** أشتاقه كالمدمن الســــــــكران
أنا من أنا إن لم أكــــــن أغنية ** أو زهرة ترتاح للبـــــــــستاني؟
يا تونس الخضراء إني عاشق ** أينعت فيك.. وأورقت أغصاني
إني فتاك.. أتذكرين شـــقاوتي ** أم قد طوتني أزمن النـــسيان؟!
لا تنكريني إن رأيت ملامحي ** وقرأت في وجهي هموم زماني
فأنا الذي قد عشت فيك مدللا ** ألهو وأطلق للشباب عــــــــناني
ما كنت أحسب أنني أبلى ولا ** أن التغير يعتري؛ وعـــــــراني!

يا "باردو" أين البحر في عينين في ** "نهج الرميلي"تعيش في وجداني؟
إن تنــــسني فـ"المتروبول" تذكرت ** و"المـــــسرح البلدي" لن ينساني
أين الذين عرفـــــــــــــتهم يوما هنا ** تــــــــركوا هنا.. أم جاء خلق ثان؟
بنزرت قد عشــــنا هــنا أحـــــداثها ** وعُلَيَّةٌ تشـــــــــدو: "بني أوطاني"
ومعارك "الأوراس" عـــشنا هولها ** في بُعْدِها الوطــــــني.. والإنساني

الخاتمة

يأتي الحنين في شعر ولد إشدو موزعا بين مستويين:

- مستوى وطني يخص القطر الموريتاني مصحوبا بمرارة السجن والقمع والحسرة، يتم فيه استعراض بعض الذكريات الجميلة في ربوع المنشأ، في تقابلها الضدي مع مرارة السجن والاغتراب داخل الوطن، وقد يتخذ من الماضي مصدر إلهام للتعويض عن مأساة السجن كما في قصيدته "حوار مع البدر".

- مستوى قومي لا يلاحق الشاعر فيه السلطات الموريتانية؛ وإنما يأنس للمرابع التي كانت قد شكلت في وقت ما جزءا من ذاكرته وكيانه النفسي، كما في قصيدتي "سلام على الفيحاء" و"بالأحضان".