توقيع "سفارة الأَرْز" في حفل بهيج (5)
مساهمة في تقديم كتاب "سفارة الأرز"
د. المصطفى بن خطري
مكتوب جسد، بوصفه فكرا وعملا فنيا منظما، رغبة وهدفا ومبتغى عند الباث (مؤلفه) أفصحت عن نفسها وحازت صفة التأثير في المتلقي؛ الميزة الأدبية والشعرية للخطاب عند الفيلسوف البلغاري الفرنسي عالم اللسان توزفتان تودوروف. وإن كان من متشابه الأجناس الأدبية؛ إذ فيه من القص والسرد والمشاهد والشخوص وتأزيم المواقف ملامح القصة أو الرواية، وبينه وبين المقامة أوجه شبه، وفيه من الرسالة، وإن كانت أعم من الجنس الأدبي، ميسم أو نار لأهل إگيدي ونعوت مجموعة من مجموعاتنا التقليدية، فإن فيه من تجارب صاحبه ما يجعله أقرب إلى المذكرات أو سيرة حياة سياسية.
وإن لم يترك لنا الأستاذان: مقدم الكتاب أصلا وصاحب العرض إلا ما للتلميذ من محاولات حل للتمارين فسنساهم بكلمة؛ ننطلق فيها من اعتبار هذا الكتاب نصا لغويا، ونود - إن سمح المقام- لو تم تحليله أو إثارة جوانب منه في ضوء علم لسانيات النص. ليتسنى لنا النظر في مستوى موفوره من معيارية النص المعتبرة والمحددة عند أهل علم اللغة النصي، وهي المعايير السبعة المعبر عنها، عند عالم اللسان الإمريكي روبرت دي بوجراند مثلا، في كتابه "النص والخطاب والإجراء، بالسبك والحبك والمقصدية والقبول والإعلامية والمقامية ثم التناص". ونود أيضا لو تمت تلك الإثارة من خلال محاولة الإجابة عن التساؤلات الأربعة التالية:
ما هي مقصدية الكاتب من مكتوبه هذا؟ وهل وصل إلى مبتغاه ومسعاه فحقق بالتعبير عن ذاته وتجاربه الحياتية وجوده وسبَى وأَسَرَ وجدان وعقل المتلقي وأنار الدرب أمام من سيتحمل المسؤولية من الجيل الجديد لتسلم مشعل النضال والكفاح؟ وكيف كان ذلك التعبير وكيف كانت أطر البناء سبكا وحبكا وإعلاما وتناصا؟ وما ذا يضيف هذا النص إلى المكتبة الوطنية والعربية.
ولضيق الوقت والمقام فسنقتصر على ما تحصل به الكفاية أو يحسن عليه السكوت وهو، على مستوى إثارة النص، التركيز على فصليه: الأول والثاني والجزء الأول من فصله الأخير، وعلى مستوى الإجابة أن تكون عن التساؤلين الأول والأخير.
أولا ـ المقصدية، أو من العنوان إلى الغرض والموضوع: الأرز شجر من فصيلة الصنوبر دائم الاخضرار، يطول عمره إلى الألف سنة، وله في الحضارات الشرقية رمزيته وصفته المميزة وبالأخص في بلاد الشام؛ فهو مذكور في التوراة والإنجيل، ومعلوم دوره في التحنيط والتداوي؛ فضلا عن كونه رمزا للعراقة والقداسة والصمود والخلود. أما في لبنان فهو كل شيء لكثرة وسرعة نموه بالبلاد، ولكونه الأرز الحقيقي لا الأرز الكاذب، ولتعلق الإنسان اللبناني به؛ حتى سمي لبنان بلاد الأرز، وحتى أصبح الرمز الرسمي للدولة اللبنانية وواسطة عِقْدِ عَلَمِها الوطني.
هذا الدال ذو الرمزية الخاصة اختاره الكاتب الشاعر ليركنه كمضاف إليه إلى دال آخر من قاموس الدبلوماسية هو "سفارة" ليصنع من هذين المتضايفين العنوان الرئيسي لعمله "سفارة الأرز في إفريقيا الغربية" الذي بلغ حجمه مائة وأربعا وأربعين صفحة من A5.
وكأنه يريد، بعد أن نزل الأرز منزلة النخيل وشموخه وارتباطه بثقافة العلم والحرية والتحضر، أن يقول لنا عن طريق الرمز والإيحاء، ما قاله في المقدمة بصريح العبارة وبكامل الوعي والشعور، إن هجرة الأرز الشامي إلى غرب إفريقيا كانت، حقيقة، وراء الكثير مما عرفته موريتانيا من نهوض ثقافي ووعي سياسي وفك عزلة دبلوماسية وارتباط بالمنشأ الأم، منذ أن تسمت بموريتانيا وعلى امتداد ثلاث فترات، هي: فترة الاستعمار وفترة الاستقلال والبناء فعهد التيه والنصر، وبأسرع ما يكون من الاستعداد والاستجابة، حتى أنك في جوانب منه يمكن أن تتساءل: أيهما كان ينشد وجوده في الآخر؛ أهي تلك الجالية المهاجرة التي وجدت في الثقافة العربية العالمة البظانية، لحظة اكتشافها لها، مخلصها من هموم الغربة ومنغصات الحياة ومآسي وويلات العصر (حروب الاستعمار واستعباده الشعوب واحتقارها، فضلا عن قساوة الحياة وندرة مصادر العيش)؟ أم هي تلك الثقافة العربية، ذات الرسالة العالمة والمجهولة في حضنها العربي الفاقدة لحنانه، التي وجدت في زهرة شباب الأرز المهاجر الحضن والنصح والنشر والترويج، إن لم نقل إعادة وإحياء وتكميل الدور التاريخي لفتوحات عقبة بن نافع وطارق بن زياد وعبد الله بن ياسين وأبي بكر بن عامر.
وحتى أنك يمكن أن تعتبر سفارة الأرز الأب الشرعي للفكر القومي العربي في موريتانيا؛ حيث إن تعرف الشباب الموريتاني الثائر على قضية العرب "المأساة الفلسطينية" ومن خلال الوثائق، وعلى حركة القوميين العرب ومجلتها الرائدة آنذاك "الحرية" كان أول ما كان بواسطة هذه السفارة، التي كانت الذراع الأيمن لحركته ثم السند القوي لها عند ما تطورت نواتها الأساسية إلى حركة الكادحين؛ فمن وفر ظروف الطباعة، وما أدراك ما الطباعة يومئذ، لكتاب خاص بذكرى الراحل سميدع زعيم هذه الحركة عام 1972؟ ومن سهل سرا مهمة انتقال بعثة من الحركة إلى الجزائر عام 1976 للتفاوض حول حرب الصحراء المدمرة؟...
إن الكاتب لمحق، وإن موضوعا كهذا لحري بلفتة كريمة تعترف بجميل هؤلاء وتحتفي بهم وتشيد بدورهم. والتأليف فيه، خاصة من طرف مؤثر فيه ومتأثر به وشاهد عليه كابن إشدو، قد يرفع الحرج ويكفر الذنب عن جميع السياسيين والمثقفين الموريتانيين المفرطين إن كيفنا الاعتراف بجميل الأرز اللبناني المهاجر فرضا كفائيا لا عينيا. والتأبين لعظيمين من رواده "حملا باكرا هم موريتانيا فشاركا شبابها الرائد الرائع البطل مسيرته الظافرة من أجل التحرير والتعريب وقدما له ما بوسعهما من مساعدة في بلوغ أهدافها النبيلة" هو أضعف الإيمان.
ثانيا ـ ما ذا يضيف هذا النص إلى المكتبة العربية:
أما على مستوى هذا التساؤل فإن الكتاب يرفع الستار وينفض الغبار عن دور مجهول أو منسي لإخوة أحبة في سفارة الأرز اتجاه أشقائهم الموريتانيين، وعلى مدى عقود من الزمن وفي مجالات مختلفة؛ لذلك فهو اعتراف بالجميل في محله، اعتراف يرفع ظلما ويزيل جهلا ويحق حقا لمستحق؛ وقد يرفع من مستوى التقدير والاعتبار لهذه الجالية، وللإنسان اللبناني عموما، ومن مستوى التعارف والتقارب والمحبة بين الشعبين والبلدين الشقيقين اللبناني والموريتاني.
كما أن هذا الكتاب يضيف إلى المكتبة العربية تجربة حياة زاخرة بالعطاء والاستماتة في التضحية والنضال، هي مثال حي لحياة المثقف المندمج الغارق بين أمواج هم وغم مجتمعه وشعبه وأمته العربية، الباحث المتلهف عن مصابيح الفكر المختلفة (القومي العربي، الاشتراكي الماركسي، الإنساني الوجودي) وشتى السبل الثورية (تنظيم الحركات السرية والمهنية، استخدام المنابر الشرعية، امتطاء صهوة الفن والأدب ووسائل وسبل الإعلام، خلق العلاقات مع الآخرين) التي تنير الطريق أمام الشعوب في سبيل تطوير مجتمعاتها وبناء دولها بحرية وكرامة. وكل ذلك بعصامية تامة وموقف من حديد.
فمن ذا يقرأ ذا ويتسلم المشعل؟