كتاب العام

د. محمد كمال

جرت عادة الصحف والمجلات الكبرى في العالم في أحد أعداد شهر ديسمبر على رصد أهم الكتب التي صدرت خلال العام الذي يوشك على الانتهاء. وتحرص مجلة "فورين أفيرز" أو الشؤون الدولية، وهى أشهر المجلات المتخصصة في مجال العلاقات الدولية في الولايات المتحدة، على هذا التقليد، وقد نشرت منذ أيام قائمة بأهم الكتب، والتي تناولتها بالعرض في أعدادها خلال عام 2021، وقسمتها وفقا للمناطق الجغرافية المختلفة حول العالم.

الكتاب الذي احتل صدارة الكتب الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط، كان بعنوان "خسارة اللعبة الطويلة: الوعد الكاذب بتغيير النظم في الشرق الأوسط" من تأليف فيليب هـ. جوردون.

الكتاب طبع في أواخر عام 2020، ولكن تم تداوله بشكل واسع خلال 2020. أهمية الكتاب تعود لموضوعه ومؤلفه. والمؤلف ليس أستاذا أكاديميا، ولكنه يأتي من داخل مؤسسة صنع قرار السياسة الخارجية الأمريكية؛ حيث عمل في إدارة الرئيس الأمريكي السابق أوباما في الفترة من 2009 إلى 2015، وتولى في الجانب الأكبر منها منصب منسق البيت الأبيض للشرق الأوسط وشمال إفريقيا ومنطقة الخليج في مجلس الأمن القومي؛ وبالتالي فالمؤلف له تجربة شخصية، وشارك عن قرب في سياسة بلاده فيما يتعلق بموضوع الكتاب؛ وهو تغيير النظم في الشرق الأوسط.

ولكن يختلف موقف هذا المؤلف عن الكثير من أعضاء إدارة أوباما الذين ساندوا عملية تغيير النظم؛ حيث وصل إلى قناعة بأن محاولات الولايات المتحدة لتغيير النظم بمنطقة الشرق الأوسط، والتي بدأت بالمشاركة في الإطاحة برئيس الوزراء الإيراني مصدق عام 1953، مرورا بغزو العراق، وحتى موقفها المساند لعمليات تغيير النظم في العالم العربي في إطار ما عرف بالربيع العربي، بدءا من عام 2011، كانت كلها محاولات فاشلة.

وأطلق على كتابه عنوان "خسارة اللعبة الطويلة" لاعتقاده أن تغيير النظام قد يبدو أنه ينجح على المدى القصير؛ مما يؤدى إلى إعلان مؤيديه عن النصر قبل الأوان، ولكن ينتهي به الأمر بعد ذلك بالفشل الكبير. وبالتالي فإن النتائج الطويلة المدى لتغيير النظم في المنطقة مخيبة للآمال باستمرار. والشيء المشترك بين كل هذه الجهود هو أنها فشلت دائما في تحقيق أهدافها النهائية، وأنتجت مجموعة من العواقب الكارثية في كثير من الأحيان، وحملت تكاليف مالية وبشرية غير عادية، وفى كثير من الحالات تركت البلد المستهدف والولايات المتحدة أسوأ حالا مما كانت عليه من قبل.

ويشير المؤلف إلى أن أنصار تغيير النظم يدللون على نجاح هذه الفكرة استنادا لتجارب تغيير النظم التي قادتها الولايات المتحدة في ألمانيا واليابان وإيطاليا والنمسا، وحيث أصبحوا جميعا ديمقراطيات مزدهرة وحلفاء للولايات المتحدة، ولكنه يفند إمكانية القياس على تجارب هذه الدول التي كانت دولًا صناعية متقدمة نسبيًا ولها هياكل مؤسسية، وكانت متجانسة نسبيًا ثقافيًا ولغويًا وعرقيًا، وليست كيانات مصطنعة منقسمة على أسس طائفية ودينية وقومية تجعل من الصعب تطوير المؤسسات الديمقراطية والسلام الداخلي والحفاظ عليها.

الحجج ضد تغيير النظام في الكتاب هي حجج عملية وليست أخلاقية كما يذكر المؤلف. حيث يوضح أن دراسته عن سبعة عقود من تجارب تغيير النظام تشير إلى أن إزالة نظام أسهل من وضع نظام أفضل في مكانه. وفى كل حالة تقريبًا، عندما يتم تدمير نظام قائم، يحدث فراغ سياسي وأمنى. وفى ظل غياب الأمن، لا يشعر الناس بأي بديل سوى التنظيم والتسليح والتوجه إلى الأقارب والقبائل والطوائف بحثًا عن الأمان؛ مما يفاقم الطائفية والخصومات الداخلية، ويؤدى أحيانًا إلى المطالبة بالانفصال.

وفى إطار الحملة لإسقاط نظام قائم، توحد الجماعات المتباينة قواها لمعارضة قبضة عدوهم المشترك، مما يخلق وهم الوحدة، لكن مصالحهم المشتركة تتبدد على الفور بمجرد رحيل النظام؛ وبالتالي فإن جماعات المعارضة التي ليس لديها الكثير من القواسم المشتركة تنقلب بسرعة على بعضها البعض في التنافس على السلطة. وفى سياق الفوضى تسود الجماعات الأكثر تطرفا أو عنفا، ويتم تهميش المعتدلين، ويعمل أولئك المستبعدون من السلطة على تقويض أولئك الذين استولوا عليها.

كما أن الفراغ الأمني بعد تغيير النظام لا يؤدى فقط إلى النضال من أجل السلطة داخل الدول، ولكنه يولد منافسة لا تعرف الرحمة بين المنافسين الإقليميين أيضًا، وتندفع القوى الإقليمية - وحتى العالمية- لوضع وكلائها في السلطة وجذب البلاد إلى فلكها، ويتم تأجيج العنف وعدم الاستقرار والطائفية في هذه العملية.

ولكن المؤلف يشير إلى أن البديل عن تغيير النظام ليس الانسحاب أو الاستقالة الأمريكية من الشرق الأوسط. حيث يرى أن الولايات المتحدة ما زالت لها مصالح دائمة في المنطقة، تشمل منع انتشار أسلحة الدمار الشامل، واحتواء الإرهاب، وضمان التدفق الحر للنفط، ومنع التدفقات الجماعية للاجئين.

ويقترح أن يكون البديل لسياسة تغيير النظم هو تبنى مزيج من الاحتواء والردع، والمشاركة الدبلوماسية، ودعم الشركاء والأعمال العسكرية الانتقائية، والسيطرة على التسلح، والاستثمار الاقتصادي، ويرى أنه يمكن استخدام هذه الأدوات بحكمة لتعزيز المصالح الأمريكية، مع الاعتراف بحدود ما يمكن تحقيقه. وأن هذا التوجه قد يؤدى لنتائج أفضل من السعي وراء حملات مكلفة وخيالية وغير واقعية للإطاحة بالأنظمة.

باختصار كتاب مهم، يستحق الترجمة إلى اللغة العربية، ويقدم العديد من الحقائق والدروس حول تجارب تغيير النظم بالمنطقة، والأساس الفكري لسياسة أمريكية جديدة بالشرق الأوسط.

(عن "الأهرام")