انقلاب العاشر من يوليو 1978 (ملف خاص، ح 2/ 4)
عن الثورة الجزائرية والنظام الموريتاني والكادحين وبوليزاريو وانقلاب العاشر يوليو
التآمر مع العدو!
في لحظة سنية من تاريخنا، طبعتها عواصف صحوة 68 في فرنسا، والثورة الثقافية الصينية، وانتصار العرب في أكتوبر، ونجاح الثورة الفيتنامية العظيمة، ظلت جزائر بومدين وبوتفليقه متشبثة باشتراكيتها الخاصة (التسيير الذاتي)، وتنتهج سياسة خارجية حرة تلائم روح العصر، وتحفظ للنظام شرعيته الثورية. لذا دعمت بقوة صمود العرب في وجه أمريكا والصهيونية، وأيدت بوضوح جبهة التحرر العالمية ضد الاستعمار والميز العنصري، واتبعت سياسات نفطية وطنية، وشيدت قاعدة صناعية مثيرة للجدل. هذا عموما.
وعلى المستوى الإقليمي خصوصا، شكلت الجزائر ـ قبل غيرها ـ دعامة الإصلاح الوطني الذي أنجزه الرئيس المختار بن داداه في النصف الأول من السبعينيات. الشيء الذي نسج أواصر تحالف موريتاني جزائري لا تنفصم عراه!
وفجأة عصفت ريح مدريد، ومن بعد مدريد بشار، بما سطره الشعبان، في حين غفلة منهما.. واندلعت بينهما حرب غبية، فأصبحا عدوين لدودين!
***
لم يقم الوسيط بواجبه في إخطار "العدو" بقدومي، فتوجهت رأسا من المطار إلى المجاهد. ومنها رافقني ممثلون من بوليزاريو، التي أشعرت بوجودي بمقر الجريدة، إلى فندق أليتي، أضخم فنادق الجزائر، حيث نزلت أهلا مع العديد من كبار قياديي وضيوف المنظمة الصحراوية من أمثال الأستاذ أحمد بابه مسكه ومـد هوندو وغيرهم.
بعد عرض أغنية عاطفية مصورة، في نشرة المساء (نبتدي امنين الحكايه)، تروي لواعج حب عاصف مندثر، كالذي خرجنا منه، أذاع التلفزيون الجزائري بيانا للجبهة الصحراوية تعلن فيه "تحرير مركز عين بنتيلي الموريتاني، والانتقام للشعب الموريتاني من جلاديه"! في إشارة إلى مقتل المرحوم اسويدات بن وداد الذي قاد الحرس الوطني خلال سنوات النضال الوطني، ومات كريما في ساحة الوغى. كنت أتصور إلى حد بعيد مدى ما تجره الحروب من ويلات على المناطق الآمنة والشعوب المسالمة، وأعلم كذلك أن الحرب سجال! ومع ذلك، فقد أزعجني جدا ذلك البيان، وأفزعني ما انطوت عليه عباراته من مضامين.
بادرت الاتصال بمضيفي الذين تركوني أرتاح بعد سفر مرهق، وطلبت منهم سحب البيان فورا وإعادة صياغته بصورة يتم فيها حذف عبارة "تحرير" التي تنم بما لهم من مطامع إقليمية في موريتانيا، وإبدالها بعبارة احتلال، وكذلك شطب فقرة "الانتقام للشعب الموريتاني" الذي لم يخولهم ذلك "الحق" حسب ما لدي من علم! كما اقترحت عليهم أيضا رفع العلم الموريتاني إلى جانب العلم الصحراوي فوق عين بنتيلي المحتلة كبادرة حسن نية تطمئن الموريتانيين. وأكدت لهم بحزم أن تلبية طلباتي شرط مسبق لأي لقاء أو بحث!
.. وسحب البيان فعلا تلك الليلة وعدّل.. وبدأت المباحثات صباح الغد!
الكادحون وقضية الصحراء الغربية
يثير حزب الكادحين، في أدبياته، على ما أتذكر، مسألة تحرير الصحراء من الاستعمار الإسباني.
ومنذ إعلانها في العشرين من مايو 1973، في موريتانيا على الأرجح، تبنى الكادحون جبهة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (بوليزاريو) بصفتها مولودا شرعيا لحركتهم، قام على أكتافها، ورعاه رجال أنجبت معظمهم ساحة النضال في موريتانيا. ولا أذيع سرا، بالنسبة للعارفين بتلك الفترة، إذا قلت إن أول عدد من نشرة "20 مايو" (لسان بوليزاريو) طبعه الكادحون على مطابعهم في نواذيبو! وأن أولى عمليات تلك الجبهة ضد الوجود الإسباني نفذت بسلاح موريتاني متواضع يناسب مرحلة الولادة.(*)
وفي طفولتها، تذبذبت الجبهة بين أبوين متخاصمين، تنازعاها، هما النظام الموريتاني والكادحون. كان النظام يريدها أداة سياسته الصحراوية التي أملتها إلى حد بعيد مطالب المغرب (لم يكن قد أنشأ جبهته الخاصة به بعد). أما الكادحون، الذين أجَّلوا هَمَّ الوحدة العربية، فقد دعوا إلى استقلال الصحراء، محبذين قيام دولة حاجز بين المغرب ومبتغاه. لذلك نصحوا الصحراويين بالسعي إلى الاستقلال الداخلي أولا، وتبني تجربة موريتانيا في المجال: أي الاحتماء بمظلة الدولة المستعمرة، وقبول بقاء قواعد إسبانية على أرضهم في انتظار قيام ورسوخ قواعد دولتهم. ذلك هو مضمون رسالة نقلت إلى الولي رحمه الله سنة 74 وهو يومها في نواكشوط حيث التقى بالرئيس المختار بن داداه! وكانت إسبانيا في ذلك الوقت المبكر نسبيا توافق على ذلك الحل، كما باركه أيضا السيد خليهن بن الرشيد رئيس مجلس الأعيان التابع لها. ولم تكن الجزائر يومئذ قد دخلت بعد حلبة السباق إلى كسب ود الغانية الصحراوية!
ولما اندلعت حرب الصحراء، تلبدت سماء المنطقة بالغيوم، وأصبح الموقف من تلك الحرب ومن الجبهة محورا أساسيا في محاور الصراع داخل حركة الكادحين التي قال بعض زعمائها، ممن لا تروق لهم سياسة الوحدة الوطنية التي تنتهجها، بضرورة فسخ سياسة الجبهة مع النظام واتباع نهج بوليزاريو التي يشكل خطها، في نظرهم، حقيقة مطلقة، لأنها تمارس أرقى أشكال النضال السياسي ـ الحرب ضد الاستعمار! وعندما رفضت الأغلبية هذا الرأي، أصر أصحابه على طرحه رسميا للتصويت صحبة آراء أخرى حول وجود ميز عنصري في موريتانيا! وتم رفض جميع تلك الأفكار جملة وتفصيلا.
كانت موريتانيا تعيش عصرا ذهبيا: فبعد إلغاء اتفاقيات التبعية لفرنسا، وإنشاء الأوقية، خطت خطوة كبرى إلى الأمام، فتصالحت أخيرا مع نفسها.. وأممت ميفرما وسوميما وبياو، وشيدت أسس اقتصاد وطني يقوم على بنى تحتية رائدة (ميناء نواكشوط، طريق الأمل) وصناعة وطنية واعدة (مصنع السكر، مصفاة البترول)، ودعمت أسعار الدواء والمواد الضرورية، وعززت روح الدولة، ووأدت القبلية والجهوية، وكافحت "استغلال الإنسان للإنسان"، وشجعت الثقافة والفن، وكاد ت تنعدم فيها آفات الفساد والرشوة واختلاس المال العام! وبالتالي كانت في غنى عن مغامرة الصحراء التي لم تغنم منها غير الخسران.. بخلاف ما كانت عليه الحال في المغرب الذي شكلت الصحراء حافزا لوضعه المحتقن، وحملت إليه الأمل والعمل والفضاء الرحب والشواطئ الزاخرة!
ومن هنا، عارض الكادحون بشدة، وهم يتمسكون بأسباب الوحدة الوطنية، سياسة بلادهم في الصحراء، ونبهوا مرارا إلى ما تسببه الحرب من خراب، في نظرهم، لمكاسب البلاد وتوجهاتها التقدمية، وما سوف ينجم عنها من تنامي قوة ونفوذ المؤسسة العسكرية، ومن تدخلات أجنبية في المنطقة، خاصة تدخل الغول الأمريكي! بالإضافة إلى استحالة التوفيق بين المحافظة على النهج الوطني التقدمي للنظام ودخوله في مغامرة توسعية!
أما اليمين الوطني المحافظ الذي وجد في رجل النظام القوي ووزيره للسيادة الداخلية زعيمه الفذ وعقله المدبر، فقد رأى في مدريد والحرب فرصته السانحة للتخلص من التوجهات الوطنية والقضاء على القوة السياسية العنيدة التي تقف وراءها.
_________________
* يبدو أن الولادة الظاهرة لجبهة بوليزاريو، التي تحدثنا عنها هنا، تناقضها ولادة باطنية تمت فعلا في موريتانيا، وفي آدرار بالذات، على يد المخابرات الليبية. وكان الكادحون والنظام الموريتاني والجزائر وشعوب المنطقة (وفي مقدمتها الصحراويون) ضحايا لأمر واقع فرضته المخابرات الليبية ونزغات النظام الليبي (ينظر كتاب "الأسراب الجانحة" للجاسوس الليبي الگشاط).