محمد المنى
في باكورة عقد التسعينات من القرن المنصرم احترق عريش (امبار) مؤرخ موريتانيا الأبرز محمد ولد مولود ولد داداه في ربعنا و"نجدنا الميمون أكرم به نجدًا" (عين السلامة) ولم يكن يملك من ناطحات السحب على ظهر البسيطة غيره وغير كوخ من الحشيش بجانبه هو مرقد عشرات الكتب والمخطوطات التي جمعها وانتخبها في رحلات الوظيفة والتجوال غابرَ أيام العمر المبارك المصون عن العبث.. كان صديقه الخل وأخوه المصافي محمد ولد الشيخ (رحمهم الله جميعا) يملك ناقتين حلوبين فأرسل إحداهما للبيع بما تيسر، ورافقتُه على متن حرة الحي (لاندروفير يرگيت) ومعنا الفرنسي "برتراند د ڤوكو" المعروف بولد كيجه التالي، وكان يومها يجمع مادة كتابه عن موريتانيا ويحررها، ويقضى لذلك أيامًا معنا وأياما مع محمد ولد مولود في العين، وبعد قدومنا وحديث في مجلس تاريخي فكري سياسي بامتياز ولحظةَ خلو المجلس من غيرنا قدّمَ محمد لمحمّده الهدية المتواضعة الرمزية في ظرف؛ قائلا بالفرنسية ممازحا ما معناه: "هذه صلة وسقاية الذوك أمراء واشوابين أولاد امبارك ال هوم عترت ذي المكتبة وما أظنها سلمت من الحريق إلا ببركتهم".
وبعد ضحكات متبادلة رفض محمد ولد مولود استلام المبلغ الهدية قائلا للآخر: "لن أستلمه قبل أن تخبرني من أين لك هذا؟ فلستَ موظفا ليكون لك راتب ولا متقاعدا تستلم حقك في التقاعد، أُلا عَدّي بيك شيخ أُلا ينهدالك" فقاطع الفرنسي د ڤوكو قائلا: "من يركما وقد كانت بأيديكما حقائب الوزارات والسفارات لمدة طويلة من الزمن وأنتما على هذه الحال ولا تملكان منازل ذات بال - حتى في بواديكم البدائية- وتعيشان في هذه العزلة الموغلة في النفور من الأضواء يدرك كم كانت عظيمةً هي خسارة بلادي وخيبة جهودها حين ظنت أنها قد غيرت - أو ستغير- من مجتمع البظان الجامد هذا"!! فرد الشنافي قائلا: "قلت لك مرارا إن فرنسا إمبراطورية غبية حالفها الحظ.. قل لي أنت (مشيرا إلى محمد) من أين لك هذا أو.." وسكت..
فقال محمد ولد الشيخ مجيبا: "نعم لم يتركني طمع أهل صديقنا د ڤوكو هذا في بلادنا والاشتغال بهم وبثقافتهم لأكون - كما قلتَ- شيخا تجلب له الهدايا والهبات، ولم تتركني حكومتي أنا وأنت في الوظيفة ولا تركت لي حق التقاعد، ولكننا نحن - بني فلان "شي ماه جاي من البل گاع ماه جاد اعلينا" فضحكوا أيضا (أضحكهم الله في ضجعتهم اليوم وسرّهم وجعل الفردوس مثواهم).. فقلت: "لو رأيتم ما أصبحت فيه أجيالنا هذه من استغلال الدولة ونفوذها ووظائفها واللهاث وراء كل ذلك لعجبتم منا أضعاف تعجبنا منكم، ولو رأيتم كيف أصبح المزاح وأزمته المتولدة من جفاء وجفاف النفوس والأخلاق والمعاني لازددتم عجبا على عجب من أمرنا وأمركم وقيمنا وقيمكم وأخلاقنا وأخلاقكم..
رحم الله مؤرخ موريتانيا وعلّامتها حر النفس شريف الضمير عالي المقام.. محمد ولد مولود ولد داداه، وأسكنه فسيح جناته، ولقد صدق شاعر موريتانيا الأبرز أحمدو ولد عبد القادر حين أهدى إليه أول نسخة عربية من كتاب صِدام الحضارات لصامويل هانتنگتون، وكتب على صفحته الأولى قائلا: "إلى من يصح ويستحق أن يقال فيه ما قيل في الحسن البصري: احتاج الناس إلى علمه واستغنى عن دنياهم".