الاستجواب:
"وجهه أبيض.
والنافذة مفتوحة
والدنيا ليل
والدنيا صيف
وكلنا في زنزانة
وكان يتحدث:
أريد أن يغني أطفالنا
حين يعودون متشابكي الأيدي
من حدائق الأطفال" (ناظم حكمت، شاعر تركي).
- ما اسمك؟ ما..؟ ما..؟
- محمد الأمين اشبيه بن الشيخ ماء العينين، 50 سنة، اقتصادي، متزوج وأب لسبعة أطفال، قاطن بحي تفرغ زينة رقم 49 بانواكشوط.
كلمات نطقها بعفوية، دون أن يعيها، من شدة الذهول.
لم يكن يتصور أبدا، أن يقف متهما أمام هؤلاء الأغراب! وعزاؤه رعد التصفيق الذي يستقبله ويودعه به الجمهور.
- لا أعترف بشيء مما نسب إلي... طيلة مقامي في إدارة الأمن كنت تحت التخدير، ولم أستعد وعيى إلا بعد أيام من دخولي السجن.
الآخران يريان المحكمة آثار التعذيب في جسديهما، وينكران جميع ما نسب إليهما.
الادعاء:
"أركان لجريمة متوفرة.. مادي: المظهر الخارجي للجريمة. معنوي: النية الإجرامية. قانوني: النص القانوني المعاقب على الجريمة. الواضح أن الجريمة تمت بأركانها الثلاثة.. جمعية أشرار استهدفت أفراد المجتمع وممتلكاته.. اعتراف صريح لا لبس فيه أمام الضبطية القضائية وأمام وكيل الجمهورية خال من أي عيب في الإرادة سواء أكان ماديا أم معنويا.. اعتراف تعززه شهادات وأدلة متطابقة:
* أدوات الجريمة:
محجوز رقم 1 زوج من النظارات MERI (لا ذكر له في محضر التفتيش).
محجوز رقم 2 سجل أحمر وأسود.
محجوز رقم 3 أربع علب غاز منوم.
محجوز رقم 4 أربعة قمصان.
محجوز رقم 5 هاتف نقال (لا ذكر له في محضر التفتيش).
* الشهود: المادة 286 تقبل شهادة المتهم الذي أخبر العدالة..
الجريمة ليست سياسية؛ بل جريمة من جرائم الحق العام.
وكيل الجمهورية أعلم عن طريق الهاتف.. ونحن القضاة تعلمنا الشرطة بالجرائم عن طريق الهاتف..
كان لزاما على أولي الأمر أن يتخذوا العقوبات وينزلوها بهؤلاء.
تصوروا معي ما ذا كان سيقع: انقطاع التيار الكهربائي توقف المخابز..
هذه العلب تثير حرائق هائلة إذا عبئت بها المسدسات!"
حجة داحضة!.. وإخراج متواضع.
لا جريمة، لا محاولة، لا فعل يجرمه القانون، لا متضرر، ولا بينة.
سبعة أيام من الصباح إلى الرواح..
سبعة عشر من خيرة المحامين الموريتانيين، بشهادة المراقبين في جميع محاكمات الرأي الموسمية، يقاتلون ليل نهار في معركة حسمت سلفا! ولم تعد تجدي قوة الحجة، ولا صراحة الحق.
الجيش يحتل المحكمة.
المتهمون في سيارة عسكرية، وفوهات الرشاشات مشرعة في نحورهم تقيهم حر السموم.
كل شيء واضح..
الدفاع يعلن الانسحاب ما لم يسحب الجيش.
.. وينسحب الجيش.
حجزت القضية للمداولة.
المستشاران ينسحبان من مداولة اشترك فيها مدير الأمن الجهوي ومدير الحرس.. وبدأت جهود إرجاعهما عبر الخطوط بين الولاية وانواكشوط.
الدفاع يندد:
"محكمة ترفض طلبات الدفاع جملة وتفصيلا وتلبي رغبات النيابة فورا، محكمة انسحب وكيل جمهوريتها وأحد مستشاريها وكاتبها، وشارك في مداولاتها مدير الحرس ومدير الأمن الجهوي وتفرق أعضاؤها عنها قبل أن تعلن حكمها". (من بيان للدفاع).
.. وينسحب.
ينسحب الجمهور..
قاعة فارغة.
"قررت المحكمة قرارا نهائيا حضوريا إدانة كل من محمد الامين الشبيه بن الشيخ ماء العينين وبوها بن حسن والمختار بن هيبتنا بجريمة التهمة الموجهة إليهم وحبسهم خمسة أعوام نافذة تطبيقا للمادة 246، 247 مفسرة بالمادة 20 من القانون الجنائي الموريتاني وعملا بقول ابن عاصم:
وحيث تقوى تهمة في المدعى ** عليه فالسجن له قد شرعا".
تفسير نص جنائي بما يخالف مصلحة المتهم. و"عملا" ببيت عمره ستمائة سنة يلغي – استثناء- قرينة البراءة في حق من قويت تهمته بالقتل دون أن يثبت عليه بالأدلة الشرعية، فيقضي بسجنه تعزيرا، وهو اجتهاد لا يأخذ به المشرع الموريتاني في المدونة الجنائية، وقياس مع وجود فارق في ميدان ظاهري لا قياس فيه أو اجتهاد.
"ويضحك"،
(ونضحك)،
"وتضحك" (بدلاتنا السوداء بياقاتها البيضاء)،
"من هذه المهزلة،
ومن نذالة هذه الأيام" (ناظم حكمت، إلا ما بين قوسين)
خمس سنوات من الحبس المغلق لزعيم سياسي، في زنزانة القتلة واللصوص بمنفى تلامس درجة حرارته الخمسين، عقوبة اعتناق الديمقراطية والتبشير بالتعددية ونقل عدواهما، في الألفية الثالثة، إلى عبيد "القيادة الوطنية".
* * *
من سيرة "دولة قانون"! لا تختلف في جوهرها عن نظيراتها في الجنوب!! أليس كذلك يا أستاذ آغوبيان؟
أهذا هو قدر شعوبنا ونصيبها في الحياة؟
بعد قرن من انتصارها على مدى الكون، وفي عصر العولمة:
ماذا قدمت الحضارة الغربية للبشرية – خاصة إنسان الجنوب- في مواجهة الطغيان.. في مواجهة آلة الحرب الاقتصادية والعسكرية والاستهلاكية والدعائية التي تحصده؟
فكرت في البيئة، فنظمت أحزابا لحمايتها، وفرضت لها كيوتو عالمية.. وحسنا فعلت.
.. وفي الحيوان، فنظمت جمعيات للرفق به.. وحسنا فعلت.
لكن.. أما حان لها أن تفكر جديا في الإنسان، وتنظم كيوتات لحمايته؟
أما من خُضْر يدافعون عن الإنسان؟ أو من بريجيت باردو إنسانية تدعو إلى الرفق بالإنسان؟
... لقد فشلت مهزلة لابول فشلا ذريعا.
أما قيادة الدولار ووصفات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية فلا تحتاج إلى تعليق!
ماذا تجدي العصي في مواجهة الدبابات والطائرات وغيرها من الأسلحة المتطورة التي تزودون بها حكامنا في صفقات أسلحة مربحة، أو "مجانا" في بعض الأحيان، ليحافظوا على امتيازات الاحتكارات وامتيازاتهم، على حساب أبسط حقوقنا الإنسانية، وقد ولى عهد البنادق العتيقة التي صنعها، في زمن غابر، صناعنا المنقرضون؟
لن أستنجد بالتاريخ الغابر، ولا حتى بالقرون القريبة، حين كانت شمس الحضارة تشرق من الجنوب.
سأحدثكم عن مأساتنا كما عشتها.
عندما كنت طفلا، في بداية الخمسينيات، كان بيتنا يملك اكتفاءه الذاتي من إنتاجنا.. فلا نستورد من الغرب، رغم خضوعنا، غير القماش والشاي والسكر.
أما اليوم، فإننا ننتج لمصانعه فقط، ونستورد منه كل شيء؛ بما في ذلك الحليب واللحوم والحبوب، رغم غنانا في هذا المجال.. حتى قِرَبنا الفاخرة المصنوعة من جلود معزنا بادت.. وحلت محلها بيوت الهواء العاجزة عن أداء دورها في عجلات السيارات! ربما كان ذلك الاختراع الوحيد المتروك لعبقريتنا: تصريف نفايات الصناعة.
إنه نصر للحضارة الغربية، نصر لحرية التجارة وسيطرة البضاعة.. نصر للعولمة.. وهزيمة للإنسان!
كل ثرواتنا تذهب إلى الغرب خاما بثمن بخس.. وأدمغتنا أيضا.
كل شيء يصلنا من مصانعه بثمن باهظ؛ عدا ما هو إيجابي في حضارته: الحرية والعدل.. فيزداد غنى وحرية، ونزداد فقرا وتبعية وعبودية.
ما الفرق بين ازدهار بني أمس على أساس الرق، وهذا الذي يبنى اليوم على أساس قهر "النظام العالمي الجديد"؟
"نحن السود نحفر عن المواد.. انتم البيض تأخذونا بثمن بخس لتعيدوها إلينا أسلحة نتحارب بها ويقتل بعضنا البعض.. هذا أمر قبيح"! كنغولية بائسة تحمل طفلها على ظهرها في تصريح لـ EUURO NEWS في برنامج INTERNATIONAL عن الكونغو يومي 3 و04 /8/ 04.
أمــل:
"إني امقت الرأسمالية. يجب إلغاء ديون العالم الثالث، في القرن الواحد والعشرين لا يجوز أن يموت الانسان من "الجوع". وماذا عن حقوقه الأخرى، عن شرطه الإنساني؟ (متظاهر بريطاني في لندن يوم 01 /5/ 01 القناة الفرنسية الخامسة الموجهة إلى الشرق، نشرة منتصف النهار بتوقيت غرينتش).
.. وعاد التاريخ في قمة جنوا!
.. وتميزت فرنسا كعادتها.
وحدها من بين الثمانية سمعت صوت المعذبين في الأرض: كفى.
نعم. كفى!
نريد عولمة التنمية، لا عولمة الفقر!
عولمة المعرفة، لا عولمة الجهل!
عولمة السلم، لا عولمة الحرب!
عولمة العدل، والحرية، لا عولمة الظلم والطغيان!
أتنا الجنوب سيقذف حممه عاجلا أو آجلا، وأوروبا في سفحه، أما الآخرون فأبعد قليلا!
مدينة كان وصرح السلام العامر فيها MEMORIAL يذكر الأجيال ويلات وأسباب الحروب، يستوعبان مغزى هذه الصرخة، ويتدبرانها، وسيسمعانها العالم أجمع، عبر عكاظهما ذائعة الصيت.
وMm DELANNET التي احتضنت، بنبل، زهرة مذعورة من السنغال تدعى إدريسا.. في فلم الطفولة المسروقة هي فرنسا.
لكن.. كل إنسان في الجنوب إدريسا.. وحياتنا كلها مسروقة!
ساعدونا في استرجاع إنسانيتنا قبل أن ننساها ونتوحش كما توحش بعض أهل الشمال!
من فضلكم.. لنجعل العالم أرقى وأجمل!
.. متى سيشملنا ظل حضارتكم التي شملتنا بضاعتها؟ أم هي كأمريكا: صرح بلا ظل، وقوة بلا حق، وعقل بلا ضمير، وبالتالي: سراب؟
دول تستعبد أخرى، هل هي دول حرة؟
انواكشوط 20 /8/ 01
الأستاذ محمدٌ بن إشدو
_____________________
* مرافعة في محاكمة الرئيس محمد الأمين الشبيه ولد الشيخ ماء العينين. (وما أشبه الليلة بالبارحة!)