كان مجلس الشيخ محمد فال (امّفَالْ) ولد البناني في ساعات الضحى في الجانب الغربي من "لَمْبَارْ" مثار ممتعِ الحديث، ومثابة رائقه.
وكانت غاشية المجلس من نبهاء وخيار وكبراء القوم، وفي ضحوة أحد الأيام انعقد المجلس بحضرة العلامة القاضي ببّها ولد ابَّا وأحمد ولد امَيهْ وأحمد ولد أحمدو الداه - رحمهم الله- والمختار ولد المامحمد ومحمد سالم ولد امخيطرات وبابه ولد شماد وامينْ ولد فال.
تطرق بعض شجون الحديث إلى شعر سيد المختار (زَعْدَرْ) ولد سيدي ولد حرمه، فحدث امَّفَالْ" قال: حدثني المختار ولد حامدٌ قال: بينا أنا مع جماعة في "مَرْبَطِ" المذرذرة، إذا بـ"ابْجَاوِ" يغذ نحونا السير، فما أمهلنا، حتى تبين أنه محمد ولد أبنُ ولد احميدا، وقد بدت على جمله أمارات الجَهد وأثر السفر، فالتفتُّ إلى جلاسي، وقلت لهم: إن ولد أبنُ هذا لم تأت به أخبار سارة!! فما أكملت، حتى بدرنا بالسلام دون أن ينزل عن رحله، فخاطبني من بين الجماعة قائلا: يا مختار، إني قاولت أبناء حبيب الله في كل روي، ولم يبق لي غير روي الواو، وأبحث عن قصيدة من شعر المنطقة فيها تعريب لأسماء الآبار؟ فقلت له: لا أعلم وصفا لما تبحث عنه إلا قصيدة للشاعر "زَعْدَرْ" ولد سيدي ولد حرمه، وردت في مشاعرة جرت بيننا مع أولاد سيدي الفاللي، ولا أحفظها. فقال: أين تكون مظنتها؟ فأجبته: لعلها في حيهم عند بئر "تَنْيِّخْلفْ" فقال: لا بد من الذهاب إليهم فورا، فأردفني خلفه، وأعملنا السير نحو الحي، فنزلنا بأول خيمة - عرضت لنا- وهي خيمة أهل الحسن ولد التّوْ، ولم يكن فيها غير ربتها عيشَه بنت ددَّالِ، وكانت - رحمها الله- عالمة، فلما شربنا الكأس الثانية من "الأتاي" سألناها عن القصيدة، فيبدو أنها، لم تفضل أن تلقيها علينا! فاستدارت إلى جهة صندوق في الخيمة وكتبتها في كراس، وناولتنا إياها، فأخذها ولد أبنُ، وألقى عليها نظرة، فناولنيها، فقرأتها، فأخذها من يدي، والتفتَ إلى عيشَه، وقال لها: أنا والمختار كل منا ألقى نظرة على القصيدة، وبودنا لو عرفنا أي منا حفظها كاملة، من قراءة واحدة؟ فقلت له: أنا لم أحفظها، فقال هو: أما أنا فحفظتها، فألقاها علينا كاملة:
ألا حَيِّ دورًا بـ"أنضـاهوى" ** بها قد عرفـنـا الصِّبا والهوى
وألـممْ وعـرِّجْ بأطلالهـــــا ** وإن كـنـتَ فـي غاية الإرعوا
وسلْ عـن سلـيمى وجاراتها ** إلى أيـن شطّت بـهـنَّ النـوى
مغان تغـيرن بعد الأنـيــــــ ** ـسِ إلا معـاهدَ هجْنَ الجـوى
غَنِيـنـا زمـانـاً بعـلـيـائهـــا ** وركـنُ الأسـاس شديـد القوى
فـمـا سـامـنـــــا إمَّعٌ مَفخرًا ** ولا رام مُستـنســــــــــرٌ إسْتَوا
ولا حـام يبـغي العلا حولنا ** وضـيعٌ ولا كـــــــاد إلا انزوى
ولا جـدَّ ذو رتبةٍ يبتغـي الـ ** ـمعـالـيَ إلا إلـيــنـا انضـــــوى
ولا الديدنُ الـمـلْح جرّاء أن ** تُخلَّ بفخرٍ قـديـم الثــــــــــــوى
ولا الفخرُ بـالعـلْك مـن شأننا ** ولا شأن مـن كـان مـنـا تـوى
ولكـنمـــــــــا الفخرُ إن رمْتَه ** ببذل النــفـوس وكُوم النِّـــــوا
وعُوذٍ مطافـيلَ شُمِّ الـذرى احْـ ** ـتِسـابًا والاِقــدام تحت اللِّوا
وفـي كــــل جُلّى ومــــجهولة ** حـوَتْ كلَّ بأسـاءَ أمّ احتـــوا
ومَنٍّ مـن الله يُسدي بـه الـــــ ** ـعطـايـا لـمـن شـاء لا بالهوى.
قال "امَّفَالْ": يضيف المختار، فما شربنا "البراد الثالث" حتى صار ولد أبن يستعجل الرحيل، فودعنا عيْشَه قافلين، وما غابت عنا خيام الحي حتى كان ولد أبنُ في بيته التاسع من رائعته:
أراحت لقلبي عازب الهم والهوى ** ربوع بـذات الريع شرقي ذي الهوى
وألوت بصبر بعد صبري منازل ** بجنبة ذات الدخن في ملتوى اللوى
وقد هيـــجت آيــات دور مـــحيلة ** لدى ميـسة المرضى البلابل والجوى
وبالسفح من بصارة الميــسة التي ** تلي تلعة الغــــــــدران مرتبع قوا
وفي جانبي غور الغدير مرابع ** دوارس هي الداء لي وهِي الدوا
وفي جلهتي ذات الجمال ونعفها ** إلى ملتوى الوعساء من حيثما التوى
معاهد إن رمت ارعواء عن الصبا ** أبى ذكرها إلا ارعواءً عن ارعوا
منازل ما هاجــــته ما هِيجَ قبلها ** فقلبي على صفو الوداد لها انطوى
أقـــمت به دهــــرا بأهنأ غــــبطة ** وأعذب وصل آمنا صولة النوى
ديار بها احلولى التصابي وأينعت ** غصون الهوى حتى تأنق واستوى
فكم ليـــلة في هـــذه الدور بــــتها ** أغـــازل غــــزلانا معاصمها روا
إذا ابتسمت خلت البروق ابتسامها ** سنا في هواء مثل آخر في هوا
وتحسبها مهما تــــثنت أو اســتوت ** نضيرات بان في تثن وفي استوا
ومهما التوت فـــوق اللوى قلت: هذه ** ظباء اللوى لولا الشواكل والشوى
ديار جنينا الــــــعلم في جـــنباتها ** شهــــيا وأدنيــــناه إذ هو مجـــتوى
... إلى آخرها.
يقول المختار: فعجبت من "شطارة" ولد أبْنُ في الحفظ بحفظه القصيدة من قراءة واحدة! وكذا من حسن قريحته في سرعته في نسج قصيدته على منوال الأخرى.