ثانيا: انعدام وبطلان المحاكمة بسبب غياب أسس المحاكمة العادلة وخرق القانون في معظم إجراءاتها. (أ)
سيدي الرئيس،
السادة أعضاء المحكمة الموقرة،
قال الله تعالى: ﴿إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا﴾. (النساء 58).
وقال عز وجل: ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون﴾. (المائدة 8).
وقال جل من قائل: ﴿وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا﴾. (الإسراء 15) وذلك لكي يعم ويسود العدل، ولكي لا تكون للناس على الله حجة. ومن هنا جاء مبدأ الإعذار المقدس: "وأعذر له بأبقيت لك حجة" (خليل). والمادة 7 من قانون التنظيم القضائي التي سنتطرق لنصها لاحقا!
وكلها أوامر إلهية وأقوال ربانية جاءت لنبذ الظلم وتحقيق المساواة وحماية المجتمع والفرد معا بالحق، ولتأكيد الحضورية في إقامة العدل بين الناس!
ويعتبر التوفيق بين حماية المجتمع، وصيانة كافة حقوق الفرد، إحدى المعضلات التي واجهتها البشرية؛ وقال فيها الشرع كلمته الفصل! واستطاعت الدولة الحديثة، في المجتمع الدولي المعاصر التغلب عليها وحلها بنجاح. والقانون هو الأساس الذي ينظم تلك العلاقة الشائكة.. وهو التعبير الأسمى عن إرادة الشعب ويجب أن يخضع له الجميع. كما نصت عليه المادة الرابعة من الدستور! وقد وضع مبادئ أساسية لحل تلك المعضلة، من أهمها حق المحاكمة العادلة.
وعندما نقول القانون فإننا لا نعني بذلك قوانين بلادنا وسندها الشرعي فحسب؛ بل نعني به أيضا المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي انضمت إليها وصادقت عليها وتبنتها موريتانيا، فأصبحت بذلك قانونا له "سلطة أعلى من سلطة القوانين، وذلك فور نشرها" حسب ما تنص عليه المادة 80 من الدستور. (وليست مجرد مبادئ للاستئناس، كما ذكرتم ذات مرة في أحد قراراتكم!) وهي مثل: الإعلان الدولي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان، واتفاقية مناهضة التعذيب وغيرِه من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة، والإعلان العالمي لاستقلال القضاء، والمبادئ الأساسية الخاصة باستقلال القضاء، والمبادئ الأساسية بشأن دور المحامين، والمبادئ التوجيهية بشأن أعضاء النيابة العامة.. إلخ. وكلها نصوص دولية منشورة ومشهورة تعقد الورشات عندنا من أجل التعريف بها وشرحها، وتصرف التمويلات الباهظة على فهمها وتطبيقها.. ثم ما تلبث أن تنكر وتوأد من طرف القائمين على المرافق عندنا، حتى ليخيل إليك أنها لم توجد أصلا!
وتعني المحاكمة العادلة - في الشريعة والقانون والاتفاقيات الدولية النافذة في بلادنا- احترام وتطبيق جملة من المبادئ من بينها:
* المساواة أمام القضاء.
* حق كل فرد عند أي تهمة جزائية توجه إليه، أو في حقوقه والتزاماته، في أن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة مستقلة حيادية، منشأة بحكم القانون. (خطوط التشديد منا).
* لكل متهم بجريمة أن يتمتع أثناء النظر في قضيته - وعلى قدم المساواة التامة- بالضمانات الدنيا التالية:
- أن يتم إعلامه سريعا وبالتفصيل، وبلغة يفهمها، بطبيعة التهمة الموجهة إليه وأسبابها.
- أن يعطى من الوقت ومن التسهيلات ما يكفيه لإعداد دفاعه، والاتصال بمحام يختاره بنفسه.
- أن يحاكم دون تأخير لا مبرر له.
- أن يحاكم حضوريا، وأن يدافع عن نفسه شخصيا أو بواسطة محام من اختياره، وأن تمكنه المحكمة من محام إذا كان لا يملك الوسائل الكافية لذلك.
- أن يناقش شهود الاتهام، بنفسه أو من قبل محاميه، وأن يحصل على الموافقة على استدعاء شهود النفي بذات الشروط المطبقة في حالة شهود الاتهام.
- أن يزود مجانا بترجمان إذا كان لا يفهم - أو لا يتكلم- اللغة المستخدمة في المحكمة.
- أن لاّ يكره على الشهادة على نفسه والاعتراف بذنبه.
* لكل شخص أدين بجريمة حق اللجوء - وفقا للقانون- إلى محكمة أعلى تعيد النظر في قرار إدانته وفي العقوبة التي حكم بها عليه.
(دليل حول الضمانات القانونية للمحاكمة العادلة ص 29).
فهل تم احترام هذه المبادئ وعُمِل بها في هذه المحاكمة؟ سؤال كبير أردت طرحه أساسا لهذا الجزء من مرافعتي؛ ذلك أن القضاء إجراءات، وشرط النهايات تصحيح البدايات، والغاية لا تبرر الوسيلة. وهذه المبادئ سطرت وسنت لحماية حقوق الفرد من طغيان سلطة الاتهام العمومية العاتية؛ ولحماية المجتمع الذي يتكون من أفراد. وعندما ينتهك واحد من هذه المبادئ، تنهار أسس المحاكمة العادلة، وينهار القانون، ويصبح الفرد المتهم عرضة لانتقام السلطة الأعمى؛ الشيء الذي لا يلحق الضرر بالفرد المتهم فحسب؛ بل يلحقه أيضا بالمجتمع والدولة والوطن. فالحكم الذي يصدر في غير محاكمة عادلة - أي في غياب القانون- يكون منعدما. ولا تكون له مشروعية أو أساس أخلاقي. وهو معرض للنقض ولا يقنع أحدا. وهناك أمثلة كثيرة على ذلك في تاريخ قضائنا السياسي؛ كالحكم الصادر في محاكمة الرئيس اشبيه ولد الشيخ ماء العينين، والحكم الصادر في محاكمة الرئيس محمد خونا ولد هيداله وصحبه مثلا.. وهي أحكام لم تقنع أحدا، ولم تمنع أحدا من مزاولة حقوقه، وزالت بزوال السلطة التنفيذية التي أملتها على القضاء، وساهمت في تعميق أزمة البلاد وإضعاف السلطة الحاكمة ونخر مشروعيتها، وزادت من رصيد المعارضة والتطرف، وأسخطت شركاءنا الأوروبيين والمجتمع الدولي، ودنست ما كان باقيا من سمعة وهيبة عدالتنا!
يتبع