حركة 16 مارس المجيدة (9)
ولد عيدّلها يروي أحداث حركة 16 مارس (ح4/4)
نقلنا آخر الليل إلى ما ظننته المشانق، وبعد حوالي ساعة من السير إذا بنا في الجريّدة مع إشراق الصباح، وإذا بالمحامين أمامنا. وهناك أخبرنا ابراهيم ولد مُخْتَيِّرْ بأن محاكمة ستجري بحضور المحامين ولن يجري إلا خير، وأبدى عسكريون امتعاضهم قائلين إن ما عوملنا به لم يسبق أن عوملت البوليساريو بمثله في السوء والخشونة.
بعد ارتفاع الضحى أدخلونا مصفدين إلى قاعة المحاكمة - وكان الكثير من الجنود يبكون- وبدؤوا النداء بأسمائنا، وكانت الإجراءات مشددة، وكان أحمد سالم يشجعنا – نحن الشباب- بقوله: إنما هي رُصَيِّصَةٌ ولن يشعر بها أحد! ولم يتح لنا اللقاء مع محامينا إلا أنني رأيت يعقوب جلو في "لاندروفر" عسكرية. وقد آزرنا فريق من أبرز المحامين، منهم – بالإضافة إلى يعقوب جلو- محمد شين وأحمد ولد يوسف ولد الشيخ سيديا وحمدي ولد المحجوب وبال وجكنا.. وآخرون. ولم يألوا جميعا جهدا في الدفاع عنا.
حين وصلنا إلى الجريّدة وجدنا ظروفا طيبة لأن قائد قاعدتها كان سيدي محمد ولد فايده وهو من الدفعة الأولى، وقد أكرمنا غاية الإكرام، وعاملنا كالضيوف فذبح لنا يوم وصولنا، وهيأ لنا غرفة في القاعدة أقمنا فيها مدة المحاكمة ووفر الطعام والشاي والتبغ، وحرص على راحتنا وجالسنا، وكان يولي أحمد سالم عناية خاصة ويعامله بأدب جم؛ فقد درّسه وكان مديرا له. وكنا حين وصلنا الجريده في جهد لأننا لم نتناول طعاما ذا بال منذ اعتقالنا. وأذكر أنه وضع في القاعة حشيتين كبيرتين من الإسفنج لقائدينا ووضع بطانيات لباقي جماعتنا. وهو ما يندر من يجرؤ عليه آنئذ. وقد وشي به (أي ولد فايده) فلم يمكث بعد المحاكة إلا قليلا في ذلك المنصب.
المحاكمة
استمرت محاكمتنا من الحادي والعشرين من مارس (1981) إلى الرابع والعشرين منه. وكانت الجلسة ترفع في حدود الثانية - أو الثالثة- ظهرا فنخرج مصفدين وتحملنا السيارات محاطين بجنود مدججين بالسلاح إلى الغرفة التي أعدها لنا ولد فايده، ونعود بالطريقة ذاتها في حدود الخامسة مساء فتستأنف الجلسة.
بدأت الجلسة الأولى في حدود العاشرة من صباح وصولنا إلى الجريّده بندائنا واحدا فواحدا فمثلنا مصفدين وحضر المحامون وأبدوا استياءهم من تصفيدنا أمام المحكمة وطلبوا فك وثاقنا أثناء المثول كما هو العرف المتبع، ولكن المحكمة رفضت الطلب.
ترأس المحكمة الشيخ ولد بيده ولا أعتقد إلا أنه مفعول به؛ فقد كان يكفكف عبراته أمام القاعة، وكان أعضاؤها في حدود العشرة، منهم جدّو ولد حَكِّي، وأحمد ولد امبارك، وسيد أحمد ولد ابيليل، وكان يفترض أن يكون معهم أحمد ولد الطلبه إلا أنه اعتذر بأنه لا يمكنه أن يحاكم أهله، وهو موقف أسجله له من هذا المنبر. وكان المدعي العام الرائد صو صنبه رحمه الله. وجرت المحاكمة بحضور صحفييْنِ أو ثلاثة دون السماح بالتقاط الصوت ولا الصورة، ودون حضور للصحافة الخارجية.
بدأت المحكمة باستجوابنا كل على حدة، فتكلم قائدانا ورافع محامونا. ولم تتركز الأسئلة علينا لدفاع قائدينا عنا، وكان أحمد سالم وعبد القادر كلما تحدث أحدنا في المحاكمة قالا: إنه غير مسؤول عما جرى وإذا كانت مسؤولية فهي علينا نحن.
كان نصيبي من الاستجواب في المحكمة أسئلة عن شأني ومن ذهب بي ومن جاء بي ولماذا ذهبت وماذا أنوي.. وكنت أقول إنني دعاني من أحترمه فلبيت الدعوة وسرت معه إلى حيث سار. وكان نصيب زملائي من الأسئلة وإجاباتهم كذلك.
كان أغلب الأسئلة من صو صنبه، أما الشيخ ولد بيده فكان غير مرتاح ويبدو عليه التوتر بوضوح؛ فهؤلاء أصدقاؤه ولكن لم تكن بيده حيلة، بينما لا أتذكر أن أحدا من أعضاء المحكمة تكلم.
وقد دافع عنا محامونا إلى أقصى الحدود، وكان محمد شين يقول: إذا قتلتم هؤلاء القوم فستحدث انتفاضة شعبية، وهو يبكي. وكذلك كان يعقوب جلو وباقي المحامين. وأتذكر أن أقواهم مرافعة – في تقديري- كان يعقوب جلو، ثم محمد شين.
أثناء المحاكمة قال عبد القادر إن في القاعة عشرة ضباط سبق له إنقاذ حياة كل منهم؛ وخصوصا رئيس المحكمة، وذكر أسماءهم. وكان الشيخ ولد بيده متأثرا للغاية ولكن كان من الواضح أن المحكمة تعمل وفق تعليمات تلقتها سلفا.
كانت محاكمتنا تجري ونحن وقوف دون السماح لأي منا بالجلوس، ولم نودع في قفص اتهام وإنما كنا نقف قبالة هيئة المحكمة. وكانت الأسئلة مكررة، بحيث أن السؤال المطروح في الصباح هو نفسه المطروح في المساء. وقد مثّل مجيئنا من المغرب عامل إدانة لنا في رأي المحكمة، وقد قلنا لهم إننا لا نختلف عن سائر الموريتانيين الذين يذهبون بمنحة إلى المغرب للدراسة والتدريب. وكان أهم ما لفت انتباهي خلال المحاكمة تعاطف العسكريين الذي لم يستطيعوا إخفاءه معنا. ولم يكن يسمح لأحد بالاقتراب منا لأن المقصود بكون محاكمتنا هناك حجبنا عن التواصل مع العموم لتتاح صياغة قصتنا وفق رؤية النظام.
كنا نحاكم حضوريا باستثناء محمد ولد دودو سك الذي كان على سرير الاستشفاء. وبالمناسبة فإن أخاه - أستاذ يدعى أحمدو ولد خطاري- قد تقدم بشكوى من هيداله إلى المحاكم الدولية لأن أخاه أخذ من سرير المستشفى معصوب العينين وأعدم دون محاكمة.
وخلال اليوم الأول تحدث انيانغ مصطفى فقال إن ضباطا -لا أريد ذكر أسمائهم إلا أنهم الآن مسنون متقاعدون- لا يمتلكون الشجاعة التي يتظاهرون بها، وإنه لو أعطي سيارتين واصطحب فيهما القوم الذين جاؤوا معه لعرفوا من هو ومن هم؛ مضيفا أنهم خلال حرب الصحراء استولوا على الأموال وفروا بها. قال هذا هناك وكان بطلا شجاعا. وقال كادير إنه قام بما قام به لتخليص موريتانيا من هذا الرجل الذي لا يحق له أن يحكمها؛ فقد جاء أبوه 1958 من بئر انزران، وإنه يريد ترحيله عنها.
لكن ولد هيداله الذي كان على علم بموعد وصولنا عقد اجتماعا أمنيا للجنة العسكرية وألغى اجتماعها المقرر يوم الاثنين 16 مارس وفر إلى حيث يكون قريبا من البوليساريو. لماذا لم يبق حيث كان ليتصدى لنا وفضل العودة بعد انتهاء الأمر!
بين الجلسات
كان قائدانا في المبيت يحضاننا على الصبر والتجلد، وينبهاننا على أننا لم نعد كما كنا؛ بل أصبحنا محط أنظار الناس وعلينا الحرص على سمعتنا، ويقولان لنا إنهما لا يريدان العفو من ولد هيداله ولن يطلبا عفوه، ولكنهما لن يدّخِرا وسعا في سبيل نجاتنا، فإذا شاء الله أن يقتلا فقد تركانا مع أبنائهما وعلينا الاعتناء بهم ريثما تتغير الأمور، وإن كل شيء سيتغير وسيذهب هذا الرجل الدخيل على موريتانيا. وأحيانا تجري بعض الممازحات. وأذكر أن أحمد سالم كان يقول لنا: إن حالنا أهنأ من حال ذوينا؛ فهم الآن قلقون وتحت المتابعة الأمنية، بينما نحن جماعة من الأصدقاء في ضيافة صديق. وكان كادير يقول مثل ذلك ويرى التغيير أمرا حتميا بإذن الله.
وقد طلب محامونا لقاء ولد هيداله سعيا إلى الحصول على عفو عنا، إلا أن مساعيهم اصطدمت بعدم رغبة قائدينا في استجداء هيداله. وقد جاء وفد من العراق وآخر من دولة أخرى – لعلها السعودية- للتوسط في الأمر فرفض هيداله استقبالهما.
النطق بالحكم
في صباح اليوم الثالث حضر الشيخ ولد بيده وجاء خلق من الذين تابعوا المحاكمة ترقبا لإعلان نتيجة المحاكمة والنطق بالحكم المعروف سلفا؛ فجبن ولد هيداله يمنعه من الإبقاء على عقيدين يعرف كفاءتهما واقتدارهما. وحتى هو نفسه كان مفعولا به؛ فقد كانت الجزائر تضغط عليه، وفي فترة من الفترات كان يقول إنه لا تدخل له في موضوعنا.
جلس ولد بيده فطرق على مكتبه تنبيها للحاضرين ثم قرأ شيئا لم أعد أذكره، ثم قال باللغة الفرنسية: أربعة أحكام بالإعدام، خمسة بالسجن المؤبد مع الأعمال الشاقة، ثم تلا الأسماء فضج المحامون والعسكريون استياء من ذلك وبكى وبعضهم؛ بل إن الشيخ ولد بيده نفسه كان يبكي أثناء النطق بالحكم لأن الأمر لا يعدو رسالة بعثت معه. وبالمناسبة فقد لقيته أنا شخصيا في مكتب أحمد ولد بكرن حوالي سنة 89 –وكان يعمل معه مدعيا عاما وقتها- فسأله: سيادة العقيد هل تعرف هذا الرجل؟ فقال: على كل حال أتذكر شيئا بخصوصه. قال له: هذا أحد جماعة 16 مارس! قال: لما عدت إلى ولد هيداله كاد يعدمني لأني لم أحكم عليهم جميعا بالإعدام!
كان الإعدام من نصيب العقيدين عبد القادر وأحمد سالم، والملازمين انيانغ ومحمد ولد دودو سك، والمؤبد مع الأعمال الشاقة من نصيب الباقين منا. ولما أنهى (ولد بيده) قراءة الحكم أخذ أغراضه وذهب. دون أن ينطق أحد من المحكوم عليهم! ولماذا ينطقون ما دام مصدر العفو ولد هيداله؟ العفو إنما هو من الله وولد هيداله لا يملك من أمر الله شيئا.
في حديث لولد هيداله إلى إحدى الفضائيات قال إن العلماء أفتوه بقتلنا، ومع أني لست عالما ولا مفتيا فما كنت أسمعه أن العالم كلما اقترب من النظام اقترب من النار. وأعلمُ العلماء وقت ذاك بداه، ولم يقترب من الأنظمة أبدا، وكنت أسمع أن المرحوم المختار ولد داداه كان يطلب منه إطلاعه على ما سيلقيه في خطبة الجمعة فيرفض قائلا إن ما سيلقيه على المنبر لا يقبل أن يتلقاه من أحد وإنما يقوله كما يريده هو. وبداه ورع ويخاف الله ورفض ذلك، وحين بعث إليه هيداله ليحمله على القول بأن إعدامهم شرعي رفض وقال له: بإمكانك استدعائي، وبإمكانك قتلي، لكنك لا تستطيع إدخالي في النار! بل إنه رثى الأمير العقيد أحمد سالم في خطبة الجمعة الموالية لإعدامه.
في انتظار المصير
بعد النطق بالحكم أعدنا إلى الغرفة المخصصة لنا وتأخر تنفيذ الإعدام 48 ساعة فنفذ في 26 /3/ 1981. ويومها بكيت للمرة الأولى في حياتي، لا حزنا على شبابي فهذا لم أفكر فيه؛ بل حزنا على فقدان قيادتنا الذي أعتبره خسارة كبيرة للوطن. إنهم ضباط أنفقت موريتانيا عليهم وخدموها وخرّجوا أجيالا من الضباط ثم يقتلون هكذا! هذا أمر لا ينبغي أن يحدث. وكان أحمد سالم يقول لي: لستُ بدعا في هذا؛ فكل آبائي قتلوا بالرصاص، وهذا أمر عادي.
لم ألحظ امتعاضا لدى المحكوم عليهم بالإعدام، بل أنهم كانوا يخففون عنا! وظلوا بعد الحكم كما كانوا قبله؛ رجالا أقوياء منشرحين مرحين مستبشرين بأن الواقع سيتفكك. وقد اتخذوا من الحكم موضوعا للتندر والمزاح، فكان انيانغ يقول لنا: حين يصل كل منكم إلى السبعين من عمره سيفرج عنه.. ونحو ذلك من المزاح، وكان الآخران يقولان لنا: لقد تركناكم مع أطفالنا، وولد هيداله زائل بإذن الله. هكذا كانوا طيلة الثمان والأربعين ساعة التي قضوها معنا بعد النطق بالحكم حتى غادرونا فجر الخميس 26 من مارس؛ يحرضوننا على الصبر، وينبهونا على أننا في أيدي أعدائنا، وأن المهم أننا بقينا أحياء ومن بقي حيا فسيتحقق مطلوبه؛ أما هم فذاهبون ويتقبلون ذلك ولم يطلبوا العفو من هيداله ولن يطلبوه، لأنهم يفضلون الموت على أن تكون حياتهم منة من ولد هيداله. وقد روج النظام ومخابراته أنهم طلبوا العفو.
وحسب علمي فقد زار أشخاص زوجة أحمد سالم رحمه الله ونصحوها بالتوجه إلى اعلي الشيخ ولد اممه - وكان ولد هيدالة يطيع أمره- رحمة الله علينا وعليه، فرفضت أن يسجل التاريخ لزوجها أبي أطفالها أنه عاش بوساطة أحد، وقالت إنها تفضل موته في تلك الحال على حياته، وإنه أعظم عندها من أن تستجدي أحدا ليشفع فيه لدى آخر، وإنها لن تفعل ذلك، وإن المحيي والمميت إنما هو الله تبارك وتعالى. أؤكد لك أنها قالت هذا رغم حداثة سنها ووجود أطفالها ومكانة زوجها.
رغم صدور الأحكام علينا استمر ولد فايده في إكرامنا والسهر على ضيافتها طيلة الثمان والأربعين ساعة التي تلت ذلك وكنا – نحن الشباب- حزانى على فقدهم أكثر مما نحن حزانى على أنفسنا، فقد كنا نستند إلى قمم وهاهي يوشك أن تزاح عنا فنبقى يتامى بالعراء! كانت صدمة لنا وبلغت منا مبلغا لا يعبر عنه. وما أزال إلى الآن أشعر بتأثر عميق كلما عدت إلى تلك الأحداث؛ لذا يصعب علي الخوض فيها. ومنها أمور كثيرة لا أقبل المرور عليها لأنها تؤثر في ومنها ما لم يحن وقت كشفه، وما أقصه عليك لا يعدو نزرا يسير مما في صدري، ولكنني لا أقول منه إلا ما ينبغي قوله.
الوداع الأخير
في الليلة الموالية لصدور الأحكام أبلغنا ولد فايده وغيره أن ولد هيداله أكد الأحكام الصادرة علينا فسلم المحكوم بإعدامهم بقضاء الله وتقبلوه بصدور رحبة وقدموا لنا الشكر والتقدير على ما قمنا به، وخصني كادير بالقول مخاطبا أحمد سالم: إن قريبك هذا منضبط وشجاع. ولا أود إطراء نفسي ولكن رفاقنا حضروا هذا وسمعوه ومنهم من لا يزالون أحياء لله الحمد.
بعد السمر توضؤوا وصلوا وناموا نوما طبيعيا.
وفي مساء اليوم التالي (25 /3/ 1981) جاء ضابط فقال لهم: لقد جهزنا الأعمدة (يعني التي سيشدون عليها عند الإعدام). وأعتقد أنهم لو أرادوا الخروج والنجاة لفعلوا فمن السهل الاستفادة من التعاطف الشديد معهم في القاعدة التي احتجزوا فيها من قائدها إلى من دونه، وسيدي محمد ولد فايده ما زال حيا بحمد الله، وكان هو القائد، ومن السهل عليه إمدادهم ببزات عسكرية ليخرجوا بها لو أرادوا ولكنهم لم يريدوا فهم كانوا أبطالا.
لما أبلغهم الضابط بنصب أعمدة الإعدام دعا أحمد سالم سيدي محمد ولد فايدة وقال له: ادع لي يعقوب جلو إذا فرغ مني هؤلاء "النويس" ليذهب بي إلى الميمون لأدفن هناك.
الميمون مقبرة لنا قرب المذرذره بها الكثير من الصالحين والأمراء، وممن بها أحمد بن العاقل. فتعهد له ولد فايده بذلك.
طلبوا أيضا أن يكتبوا وصاياهم فجاء ضابط صف يدعى وداد ولد اسويدات رحمه الله يحمل أوراقا وأقلاما من عند ولد فايده فبدأ كلٌّ يكتب وصيته. ولعل وداد فك القيد لتتاح الكتابة فقد كان صديقا وأبوه اسويدات رحمه الله.
كتب أحمد سالم وصيته وها هي ذي، وكتب عبد القادر وصيته ولم يوجد عنها خبر، ويقال إنها ذهبت عبر السنغال إلى حيث لا أدري. وحدثني أحد أبناء أحمد سالم – وكان عمره 13 سنة آنذاك، وهو الآن دكتور- أنه عند ما رأى وصية والده بدت له فيها أخطاء، ولكن بعدما تقدم في العمر تبين له أن الأمر ليس كذلك. وقد كتبها وقت المغرب جالسا بهدوء تام مع أن من الصعب على من استدعته مفوضية الشرطة غدا أن يكتب بهدوء فما بالك بمن سيعدم!
نص الوصية
"زوجتي العزيزة؛
سأغادر هذا العالم دون أن أتمكن من رؤيتكم ولا من رؤية الأولاد. كوني شجاعة كما كنت دائما، واعتني بتربية الأطفال، واحترمي ذكراي. لا تتزوجي إلا رجلا من مستواك يعطف على الأولاد كما كنت أفعل. وحدثيهم عن أخلاقي التي كنت أتحلى بها: الشرف والوضوح والوفاء.. وما إلى ذلك.
لست نادما أبدا على مفارقة الحياة إذا كان ذلك مجديا لموريتانيا.
تحياتي لأعمر وعيشه واحبيب وكل الأهل.
إذا تمكنتم من الحصول على جثتي فضعوها مع ذوي بالميمون.
تشجعوا.
التوقيع
سالمكم
ملاحظة: ادفعي لمحمدنا ما يستحقه علي".
محمدنا المذكور هو صديقه محمدنا ولد خطاري وحين أخبرت زوجه بالموضوع استعظمته واستنكرت مجرد الحديث في قضائه.
هل تعتبر من كتب هذه الرسالة ساعات قبل إعدامه خائفا؟ لا يمكن تصور ذلك!
في ليلة الإعدام بات عبد القادر راكعا وساجدا في الجانب الشرقي من الغرفة، وكان دَيِّنًا إلى أقصى درجة. أما أحمد سالم فصلى العشاء والشفع وغط في نوم عميق، وكان انيانغ ينام ثم يستيقظ من وقت لآخر فيدخن سيجارة. ولم ينم أحد منا نحن الباقين تأثرا بالحدث المرتقب. كيف ينام من يتوقع مصيرا مثل هذا لقيادته؟ لم يعد هناك أمل! كنا كمن يتوقع قطع رأسه في أية لحظة. كانت ليلة طويلة.
الرحيل
في حدود الخامسة فجرا فيما أظن – مع أننا لم تكن لدى أي منا ساعة- توقفت سيارات عسكرية وانطلق النداء أين فلان؟ أين فلان؟ فاستيقظ أحمد سالم وقال له عبد القادر: لقد جاؤوا. فقال: ذلك ما فيه الخير إن شاء الله إذن. نهض الثلاثة فأخرجهم العسكريون وحملوهم في سياراتهم وانطلقوا بهم، وقبل أن يخرجوا قال لنا انيانغ ضاحكا: إذا بلغ كل منكم السبعين من عمره فسيطلق هيداله سراحه. وكان هذا آخر كلام بيننا وبينهم. ولم يقدموا أي طلب أخير فيما بلغني. ويقال إن قبورهم على بعد كيلو متر ونصف شمال الجريدة. وهو ما تؤيده الجهة والمسافة التقديرية لصوت الرصاص الذي سمعناه. وقد لقيت ضابطا قال لي إنه صلى عليهم، ومحمد ولد لكحل –جزاه الله خيرا- يحرص على زيارتهم كلما جاء هناك.
ويشاع أنهم سئلوا عن أمنية كل منهم الأخيرة فطلب أحمد سالم عودا من السجائر، وهذا افتراء سخيف من عدة وجوه: فدكتاتورية الحكم لا تتناسب مع هذا السلوك، وأحمد سالم لم يكن مدخنا، وهذا أسلوب صبياني لم يكن من شيمته، فما جدوى التدخين على من اقتيد على الإعدام؟! ربما أراد أن يصلي لو سألوه ولكن ما شأن السجائر؟!
لم نحاول معانقتهم عند الوداع ولم يحاولوا هم معانقتنا، ولو أردنا لمنعتنا القيود والجنود. ولم يحضر ولد فايده ولا أظنه إلا تجنب رؤية ذلك المشهد فقد كان صديقا حميما إلى أقصى درجة. وأذكر من العناصر التي جاءت للذهاب بهم جنرال الآن يدعى محمد ولد سيديا ولد ازناگي ولم تكن بيده حيلة عن امتثال الأوامر، وكان ملازما أول وقتها وأظنه في المنطقة العسكرية السادسة، ومعه آخرون ذوو رتب أصغر. وهناك آخرون لم يدخلوا إلينا ولذا لا أعرف شيئا عنهم.
أخرجوهم وأغلقوا الباب علينا وبعد حوالي 50 دقيقة سمعنا أصوات الرصاص فصدمنا صدمة فوق العادة كمن لم يعد له أحد في الدنيا. وعند غروب الشمس جاء قائد المنطقة العسكرية والوالي ولد عالي انجاي والوالي المساعد حمود ولد ابوه وقالوا لنا: ترحموا على القوم. فازدادت صدمتنا وحزننا. ورغم أني بكيت عليهم عند النطق بالحكم فإني لم أبك عند إعدامهم بل تجلدت وأخفيت حزني.
وقد فضلت تجاوز الكثير مما يتعلق بوقت الإعدام لأني أرى أن وقت كشفه لم يحن بعد، رغم أني أعرف الكثير من المعلومات ولدي لائحة بأسماء من باشروا عملية الإعدام. ونحن لن نترك هذا الموضوع وفيه أسرار ستكشف في وقتها المناسب.
وقد راج أننا كنا نريد قتل أعضاء اللجنة العسكرية لو صادفناها مجتمعة وهو ما لا صحة له؛ فنحن نريد القبض على هيداله وترحيله عن بلادنا، أما الآخرون فكانوا معنا باستثناء فرد أو فردين كنا سنعتقلهم.
المنعطف
ابتداء من إعدام قادتنا تحول مجرى حياتنا إلى الأعمال الشاقة والأذى والجوع. كنا نرتدي الزي الأزرق – زي السجناء- ونقوم مقيدين بالأعمال الشاقة التي لم نكن نعرفها من قبل، من قبيل دحرجة البراميل وتهيئة ميادين الرماية وسقي النباتات والكنس.. واستمرت هذه الحال حتى انقلاب 12 /12/ 1984.
وخلال الأسبوع الأول أرادت أختاي النعمه وأبتي بنتا الشويخ زيارتي فلم يسمح لهما بالاقتراب مني ووقفتا معي في محنتي وكذلك باقي أفراد أسرتهما وهو ما أسجله لهم هنا، ولا يمكن نسيانه مهما حدث. وبعد ثلاث سنوات تمكنت والدتي من زيارتي هناك وأخبرتني أنها سبق أن حاولت زيارتي مع النعمه بنت الشويخ وحين اقتربت السيارة التي تقلهما من القاعدة العسكرية ضرب الجنود الرصاص التحذيري فوقها حتى وقف السائق، ومنعوهما من الاقتراب. وبعد ذلك لجأت إلى ابريكه ولد امبارك الذي كان قائدا للمنطقة العسكرية السادسة وكان كثيرا ما يأتينا هناك.
في الفترة الأولى من مقامنا بالجريده كانا محمد ولد لكحل كثيرا ما يمضي هناك نهاية الأسبوع ويذبح فيبعث إلى رجال الشرطة العسكرية باللحم ويوصيهم بإعطائنا بعضه. ولا أعتقد إلا أنه كان يفعل ذلك سرا، لأن من الصعب فعله في ذلك الوقت.
وبعده جاء ابريكه وكنا نلقى منه معاملة طيبة فإذا انصرف قال لنا العسكريون إن التعليمات التي يتلقونها منه مخالفة لما يقول لنا! إلا أننا لم نلق منه إلا معاملة طيبة.
وبعدهما جاء اعلي ولد محمد فال فأكد على زيادة الأشغال التي نقوم بها وأمر بأن نحتطب على متن سيارة 11 - 13 كما قال لنا الملازم بي الحسن هارون قائد القاعدة العسكرية. ويبدو أنه لم يكن يدرك حقيقة الأعمال التي نقوم بها، فقد قال بعد ذلك إنه إنما كان يخشى أن نصاب بالأمراض التي تنشأ عن عدم النشاط في السجن.
لم تكن تتوفر لنا رعاية صحية إلا أن عقيدا طبيبا يدعى كانْ كانَ يتفقدنا كلما مر من هناك ولعله تلقى الأوامر بذلك، ولكنه كان يأتي مرة في العام تقريبا. وكنا مقيدين على مدار الساعة ولا يستطيع أحد أن يخاطبنا أو يقدم إلينا أي شيء، وكان أحد عشر حارسا يطوقون المكان الذي نعمل فيه. وأذكر أن جنديا من الأهل كان يلقي إلينا خبرا في كلمة أو كلمتين حين يخلو المكان ممن يبلغ عنه ولقيت منه المودة والصداقة آنذاك، وقد تقاعد الآن وما زال حيا بحمد الله. كنت أرتاح حين يخبرني بتحرك مظاهرة أو ظهور كاتبة على الجدران. كما أن ضابطا يدعى أحمدو ولد كبير كان معنا هناك، وهو موجود هنا -أطال الله بقاءه- نحتفظ له بالكثير من المكارم.
السجان مع السجين!
في أحد الأيام كان السجن موصدا علينا فإذا بالعسكريين يهجمون علينا يكادون يخلعون الأبواب. تصورنا أنهم جاؤوا لإذايتنا والتنكيل بنا أو نحو ذلك، ولكنهم دخلوا غير مسلحين وصاروا يحملوننا عاليا ونحن في حيرة من الأمر، ثم قالوا لنا: الرجل ذهب، ولد هيداله سقط.. وبدؤوا يثنون علينا ويصفوننا بالبطولة، وفرحنا فرحا شديدا وبدأ الفرج يأتي لله الحمد، وكان على قاعدة الجريدة وقتها ضابط يدعى انيانغ.
بدأ الناس يأتوننا وأصبح لنا احترام خاص وسهلت زيارتنا فالتقيت بوالدي ووالدتي وشقيقاتي وابنتي الشويخ السابق ذكرهما. ولم نبق بالجريدة طويلا بعد الانقلاب حتى نقلنا إلى مدينة انواكشوط، وقبل أن نغادر الجريدة وصل إلينا هناك ولد هيداله وولد الزين بعد اعتقالهما، ولا أستطيع التعبير عن فرحي عندما سمعت أنهما سيحالان إلى الجريده. وكنا قد نُقلنا بعد الانقلاب إلى دار كان يقيم بها المرحوم اسويدات ولد وداد، وذات يوم جاءنا قائد القاعدة العسكرية وقال لنا إن ولد هيداله وصل، واستأذن في إغلاق الباب علينا قليلا، وفعلا رأيناه ينزل من السيارة التي جاءت به مرتديا دراعة، ومعه سيدي ولد الزين، وسجنوهما هناك، وصاروا يمنعونهما من الذهاب إلى المراحيض حين نتوجه إليها ويمنعوننا حين يذهبان إليها حرصا على أن لا نلتقي.
مكثنا على هذا الحال حوالي شهر ونصف الشهر ثم جاءتنا آخر الليل سيارة مجهزة نقلتنا إلى السجن المدني المجاور لقيادة أركان الدرك بالعاصمة وبعد 48 ساعة قالوا إنه ليس المكان المناسب لنا لكثرة اللصوص به فذهبوا بنا إلى مدرسة الشرطة، وقد التقينا هناك ضابطا لا يقل مكرمة لدينا عمن سبق ذكرهم هو أحمد ولد فَيْسْ جزاه الله خيرا. وأنا لا أذكر من لقينا منهم سوءا، وإنما أثني على من لقينا منه خيرا.
مكثنا بمدرسة الشرطة ثمانية أشهر ثم أفرج عنا في 12 /12/ 1985 وخلال تلك الشهور الثمانية تواصلت الزيارات فزارني خلق من سكان انواكشوط، ومن زواري أفراد أسرة أحمد سالم - وكان أبناؤه وقتها صغارا- فتأثرت لرؤيتهم. وكان من زوارنا من يريد رؤيتنا ليعرف هل نحن أحياء أم موتى.
استعادة الحرية
بعد عام من السجن غير المنطقي قيل لنا ذات مساء إن الإذاعة تتلو أسماءنا ضمن قائمة المستفيدين من عفو رئاسي شامل. وقد علمنا إن الإفراج عنا تأخر لأن من أعضاء اللجنة العسكرية للخلاص الوطني من يعترض على إخلاء سبيلنا، وهو موقف بدا تأثيره واضحا. وذكرت لنا أسماؤهم إلا أني أتحفظ على ذكرها، لأني لا أحب أن أذكر مسيئا بسوء، ولكن حين يحسن المرء أذكره بإحسانه.
تم الإفراج عنا في الليلة ذاتها وكان تحصيل حاصل فنحن نعتبر أنفسنا طلقاء منذ الإطاحة بولد هيداله؛ فقد سُمح بزيارتنا وصرنا نلتقي بالناس كما نشاء.
لو عاد بي الزمان إلى خريف عام 1981 لفعلت ما فعلته آنذاك بزيادة، ولست نادما أبدا على ما قمت به.
وفي الأخير أهنئ رئيس الجمهورية على إنجازاته وأكرر مطلبا سبق أن تقدمت به 2013 إليه بضرورة تحديد قبور هؤلاء القوم وإبرازها وإعادة الاعتبار إليهم، لأنهم حين يعاد الاعتبار إليهم فقد أعيد إلى أهل موريتانيا جميعا، والرئيس محمد ولد عبد العزيز يعرف معنى التضحية لأنه قد ضحى من أجل موريتانيا، وأنا على معرفة شخصية به وسبق أن سلمته هذه الرسالة (رسالة أحمد سالم إلى حرمه) فقرأها وتأثر بها تماما.
ينبغي أن تطلق أسماؤهم على دفعات وعلى شوارع جزاء تضحيتهم من أجل الوطن، وأحب أن تترجم رسالة أحمد سالم هذه إلى جميع اللغات؛ بدءا باللغات الوطنية وعلى رأسها العربية اللغة الأم، ومن ثم الصينية والإنكليزية وباقي اللغات، وأن تعرض في المتحف الوطني، حتى يعرف أهل القرون القادمة أنه كان هنا رجال يستطيعون التضحية من أجل هذا الوطن. ولا أعتقد أن الرئيس يرى في هذا بأسا فهو ذكي وقدم الكثير لموريتانيا فأوقف النهب والآن كل أحد تتحسن ظروفه سنويا كما يعلمه الكل. ولا أقول هذا سعيا إلى إرضاء أحد ولا إلى إغضاب أحد. ولست صفاقا؛ بل يغضبني التصفيق.
وكان معاوية في وقت الإفراج عنا يستحق الشكر علي إلا أني آخذ عليه أنه أتاح نهب خيرات موريتانيا لقلة من أهلها وحرَمَ باقي الموريتانيين؛ وهو ما أعتقد أنه لم يعد موجودا الآن فقد شمل الرخاء الناس بالمقارنة مع الماضي، فكنت ترى من يبذر المليارات ومن لا يستطيع الحصول على عشائه! وهو ما لا يمكن أن يحدث الآن. وآخذ عليه أنه زور الانتخابات ولو لم يفعل لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه. ولا مأخذ لي عليه من الناحية الشخصية.
وقد رافقتُ أحمد ولد داداه من 1991 إلى 2007 طلبا للتغيير فلما حصل التغيير تحقق مطلبي ولم يعد لي مأخذ.
وأطلب من رئيس الجمهورية النأي بنفسه عن هؤلاء الذين كانوا وزراء في عهد الحزب الجمهوري وكانوا مديرين عامين، وكانوا كذا.. لأنهم لا يَعْدون منافقين ومصفقين ولا جدوى منهم.
أما المصابون في 16 مارس وعائلات الضحايا فأرجو من الله تعالى للضحايا الرحمة والغفران. رحم الله السلف وبارك في الخلف إن كان موجودا، وأعتذر إليهم وأستسمحهم، فنحن لسنا من قتلهم ولم نستهدفهم، وإنما استهدفنا ولد هيداله.
(نقلا عن قناة "الوطنية" بتلخيص)