رفيق عبد السلام
(وزير خارجية تونس الأسبق)
من الواضح اليوم أن الغرب الليبرالي يريد تحررية سياسية واقتصادية في اتجاه واحد فقط. يريد تحررية ليبرالية "مكيفة" وتابعة، يرى بموجبها صورته في مرآته العاكسة ويثبت من خلالها تفوق الحل الليبرالي وليس أكثر من ذلك؛ فهو يريد ديمقراطية النخب (أو الأوليغارش) بدل ديمقراطية الشعب و"العامة" التي يمكن أن تغير مجرى هذه الديمقراطية وتطبعها بطابع الشعوب ومطالبها وأولوياتها وأوجاعها، أي هو يريد ديمقراطية مشروطة بأن تبقى في دوائر النخب "المهذبة" و"المؤهلة" ثقافيًا وسياسيًا بما لا يمسّ مصالحه الهَيمَنيّة، وهو يرغب - إلى جانب ذلك- في ليبرالية اقتصادية تفتح أمامه الأسواق وتداول رؤوس الأموال، ولكنه - في الوقت ذاته- لا يقبل نزع القيود عن حركة البشر والمنتجات الزراعية لدول الجنوب مثلًا، وهذا ما يؤكد أن مقولات التجارة الحرة والعولمة الاقتصادية هي - في كثير من الأحيان- مجرد غطاء لسيطرة القوي على الضعيف، وتثبيت نظام الهيمنة الدولي لا غير.
ما يسقط وما لا يسقط
بيد أنه يجب الانتباه إلى أن الحديث عن نهاية الغرب أو موته لا يعني "إلقاء الرضيع مع المياه الملوثة" كما يقول المثل الإنجليزي، بقدر ما يعني إرجاعه إلى حجمه الطبيعي ونسبيته التاريخية والجغرافية والثقافية.. فالكثير من القيم والتطلعات التي نادى بها الغرب - وما زال ينادي بها- هي قيم إنسانية جميلة وملهمة ساهمت فيها مختلف الحضارات الكبرى بدرجات متفاوتة، وقد أضحت ملكًا للإنسانية أكثر مما هي ملك لجنس معين أو أمّة محددة. فمن لا يريد مثلًا حكمًا مقيدًا بالدستور وسلطان القانون؟ ومن لا يريد احترام حرية الإنسان وكرامته؟ ومن لا يريد قيم المساواة بين البشر بغض النظر عن انتماءاتهم الاجتماعية أو الاثنية والدينية؟ ومن لا يرغب في وجود مجتمعات حرّة ومتسامحة ومتعددة؟
هذه قيم كونية جميلة ومن حق الشعوب - بل من واجبها- استلهامها؛ سواء من داخل ثقافتها الذاتية أو بأخذ ما يرد عليها من الحداثية الغربية.
الخلاصة هنا أننا نحن أبناء هذا العصر قُّدِّر علينا - طوعًا وكرهًا- أن نحمل في دواخلنا الكثير من مظاهر وقيم هذا الغرب الحديث وشخوصه، فنلبس ملابسه، ونستعمل الكثير من مصنوعاته؛ بل نتكلّم في الكثير من الأحيان لغاته ونقرأ بلسانه، وقد نتذوق قليلًا أو كثيرًا من فنونه وآدابه.. ولكن قدرنا أيضًا، وقدر شعوب العالم من حولنا، أن تحرر وعيها الفردي والجمعي ومختزنات شعورها من سطوة الأوهام. هذا الأمر يعد شرطًا لازمًا من شروط الحضور الحي والفاعل في هذا العالم؛ أي أن هذا التحرر النفسي والثقافي هو شرط للتحرر الاجتماعي والسياسي ودخول مغامرة التاريخ.
ستظلّ تأثيرات الغرب حاضرة وفاعلة في شعوب العالم على اختلاف ألسنتها وألوانها وعقائدها، ولكن ذلك لن يجعل من هذه الشعوب مجرد صفحة بيضاء ينطبع فيها ما يرد من الآخرين، لأن ذلك يتعارض مع واقع تعددية العالم، كما يتصادم مع مصالح هذه الشعوب ومطامحها الكبرى؛ بل إن كثيرا من الأمم؛ ولا سيما تلك التي تمتلك خبرة تاريخية مديدة ومختزنات رمزية عميقة، كما هو حال المسلمين والصينيين والهنود، باتت ساعية في سبيل إعادة صهر الكثير من المؤسسات و"القيم" الموصوفة بالغربية داخل نسيجها الذاتي والحضاري، وإعادة بنائها بحسب حاجياتها وسُلم أولوياتها.
على طريق العودة
إنّ الظاهرة الماثلة للعيان اليوم هي تسارع عودة الشعوب إلى منابعها الرمزية والثقافية؛ خلافًا لرؤية هايدغر الذي اعتبر ما سماه "أَوْرَبة الكوكب" بالمعنى الوجودي للكلمة، قدرًا محتومًا للعالم. وما يقصده بالأَوْرَبة هنا هو صعود النظرة المادية الإجرائية للكون والطبيعة، ودَهْرنة الوعي الإنساني، تناسبًا مع انتشار العلوم والمعارف التجريبية.
ولا يضير تلك الظاهرة أخذها طابعًا اندفاعيًا ومتطرفًا في كثير من الأحيان، كما هو شأن الجماعات العنيفة في العالم الإسلامي وحركات التعصب اليميني الهندوسي والمسيحي وغيرها. فظاهرة التطرف الإسلامي مثلًا يجب أن لا تحجب عنا المشهد الأكبر في أرض الإسلام الممتدة؛ وهي ظاهرة اليقظة الإسلامية الآخذة في إعادة تشكيل الخارطة الثقافية والسياسية في المنطقة العربية والإسلامية، وهي ظاهرة يتعاظم حضورها في قلب المدن والحواضر الكبرى وبين القطاعات الحديثة والمتعلمة التي كان يفترض فيها - بحسب الأدبيات التحديثية- أن تكون طليعة تغريب المنطقة وعَلْمنتها.
تَصَوُّرُ أن دول العالم ليست إلا عجينة طيّعة أو صفحات بيضاء يمكن أن يكتب عليها الرجل الغربي كل ما يريد هو، وهْمٌ كبير وسام في الوقت ذاته؛ فالحضارات الكبرى لا تموت، ولكنها تمر بقوة وضعف، تخبو طموحاتها أحيانًا وتصعد أخرى. الحضارات الكبرى تستقبل من الغير وتتكيف مع المحيط، ولكنها - على الجهة الأخرى- ترفض وتقاوم وتعيد بناء الخيارات والاتجاهات والأفكار. لقد تأثر الصينيون واليابانيون والهنود والمسلمون العرب والفرس والأتراك بالحداثة فكرًا وواقعًا، ولكنهم يبحثون بأشكال مختلفة عن إعادة تكييفها والتحكم فيها لصالحهم. فالشعور بالكبرياء - وحتى بالعظمة- لدى ورثة هذه الحضارات الكبرى ظل يسكن عقول وقلوب أبنائها وبناتها. وحتى حينما ضعفت وغُلِبَتْ على أمرها بالقوة الصلبة، ظلت المشاعر والتقاليد والأفكار متجذرة وهامدة مثل النار تحت الرماد.
ولنا أخيرًا أن نبشّر أنفسنا والعالم بنهاية هيمنة هذا الغرب، ليس لأننا نكرهه أو نجهله؛ بل ربما لأننا قد بلغنا درجة كافية من الرشد، وامتلكنا رصيدًا مهمًا من الخبرة والتجربة، يجعلنا نـميز بين الحقائق والأوهام، وبين المصالح والمفاسد. وربما سيكون أبناؤنا وأحفادنا أكثر قدرة منا على امتلاك ناصية الوعي التاريخي، وأشد تمكنا من التحرر من الأوهام المريضة. ربما يكونون شهودًا أحياء على موت ظاهرة كبرى اصطلح على تسميتها بالغرب، لا يزيد عمرها عن أربعة قرون، أو خمسة على الأكثر.
(الجزيرة نت)