الإجمـاع الوطـني

 

"ڭالَّكْ ما ڭالَّكْ، عَن مولانا هُوَ الْبالْني والْبالَّكْ، وَالْبالّْ اعْرَيْڭاتْ المسلمين كامْلينْ!"

أن الأسد ملك الغابة نذر أن يحج، إن أصلح الله به الغابة، وأقسم على نذره! وكان الحج يومها شاقا تستغرق رحلته وأداء مناسكه خمس سنين دأبا.

ولما حقق الله له ما أراد، رتب أمور المملكة، ودعا أخاه فقال له: سَأُوَلّيك الأمر، فكن لي خير خلف، وأصلح ولا تفسد، وحافظ على الموجود، واعمل على توفير المفقود، واعدل بين الرعية، ولا تطع هوى المفسدين مهما كانت الذرائع والأسباب!

حزن أخو الملك وغُمَّ، لِما للملك من مكانة في نفسه وفي قلوب الرعية، ولِما أنعم الله به على الغابة من خير وإصلاح وأمن وازدهار ورغد عيش في عهده، فحاول ثنيه عن الحج بمختلف الوسائل: زأرت أسود الغابة وزمجرت ابتهالا وتضرعاً.. وغضبا أيضا؛ وانعقد مجلس الدببة والضباع على عجل، فرفع ملتمسا إلى الملك يطالبه بالبقاء ملكا على الغابة مدى الحياة! وأفتى الغراب بأن حكم الغابة وإقامة العدل فيها يعدل حجة وعمرة وزيارة. أما قاضي القضاة السنجاب فقد حكم بأن على الأسد أن يكفر عن يمينه ونذره بإطعام مائة سنجاب! وتبارت النخبة غربانا ورخما وبوما في تدبيج المصنفات والطرر والحواشي بمدح الملك ومحاولة ثنيه عن الحج؛ كل يعمل على شاكلته وينفق مما عنده وينضح بما فيه!

لم يقتنع الملك، وطرح عليهم سؤالا واحدا شَرَطَ بقاءه بإجابتهم عليه بالإيجاب؛ وهو: هل تضمنون لي الخلود؟ فبهتوا!

       حزنت الرعية لمّا علمت باعتزام الملك الحج، وتوجست خيفة، وقعدت تنتظر!

       وجاء اليوم الموعود! فخرج الملك إلى الحج وخَلَفَهُ أخوه في الغابة!

       وبعد سنة، دخل عليه الحمار في أبهى حلله، وبكامل عقله وحكمته، فسلم بأدب وخاطبه قائلا: أعز الله الملك! رعيتكم بخير مذ وليتم أمرها، ولا ينقصها غير إشاعة الأخوة والمحبة بينها، والسعي إلى تحقيق الإجماع حولكم؛ فأنتم تعلمون أن أخاكم الملك العظيم كان مثالا حسنا في كل شيء، لكنه كان مستبدا لا يلقي بالا لآراء الرعية، ولا ينزل الفضلاء أمثالي منازلهم؛ الشيء الذي أثار عليه نقمة الرعية، وخلق الشقاق في الغابة. تصوروا - يا جلالة الملك- أني على علو كعبي، وسمو مقامي في الغابة، ورجاحة عقلي، لما طلبت منه أن يجعلني على خزائن الغابة، رفض وصرفني! ومنذ ذلك اليوم لم أتعتب باب قصر ملككم العامر حتى مَنَّ الله علينا بمجيئكم الميمون. حينها قررت أن أزوركم وأدعمكم، وأدلكم على حكمة الخلد وملك لا يبلى! ألا وهي تحقيق الإجماع الوطني!

       فكر الملك مليا! وقال في نفسه: كيف استطاع هذا المحترم الوصول إلى مجلس حكمي؟ أولم أرفض لقاء أهل الرأي والمال والجاه حتى لا يضلوني عن سواء سبيل أخي الذي صلحت به واستقامت غابتنا، وعن العمل بوصيته؟ّ! والتفت إلى الحمار فقال: لن أترك ملة أخي، ولن أبدل بعده! فرد الحمار بحزم، وكأنه كان ينتظر مثل هذا الجواب، وأعد له ردا مقنعا: أخوك أسد وأنت أسد، ولكل منكما أسلوبه وتفكيره وعمله! وبتحقيق الإجماع حولك ستعمل الغابة كلها من أجل خيرها وتزداد ازدهارا ونماء، وتختفي كل المآرب الخاصة، والأحقاد، والنزاعات، ويصبح عهدكم مضرب الأمثال في غابتنا وغيرها من الغابات والمروج! وفجأة تدخل الثعلب - وهو من وزراء الملك المقربين- فقال: أصلح الله الملك. هذه فكرة رائعة، وعلينا أن نجربها؛ فإن نجحت فحبذا، إذ لا يوجد أروع من أن تسير السيدان والخرفان والثعالب والطيور في موكب واحد في مملكتنا يسبح بحمد الملك!

       وهكذا تقررت الخطة، ولم يبق سوى التنفيذ!

حاولت اللبوة الأولى أن تعترض، فقالت: أصلح الله الملك، نحن معشر الإناث نُحَكِّم في شؤوننا الجوهرية قول الشيخ محمد الحسن ولد أحمدو الخديم، وبودي أن تكون شؤون المملكة كذلك:

تَمّي لا رَيْتي زَيْن سَعْـدْ ** يَالرّيمْ ابْعَقْلِكْ عودي

حِفْظُ المَوْجودِ خَيْرْ بَعْدْ ** مِـن طِلابِ المَفْقــودِ.

       فلم يعر أحدٌ بالا لقولها!

       وفي يوم الزينة انعقد مجلس الحوار والأمن والإجماع؛ متشكلا من: الأسد (الملك) والفيل والنمر والدب والثعبان! وهي اللائحة التي تقدم بها الحمار، فتم اعتمادها على حساب لوائح أخرى!

       أوقدوا النيران، وأداروا كؤوس شاي المفتول العلي المنعنع، وبدأ إعداد المشوي (كوزو نوزو) فملأت رائحته الزكية الذكية المكان، وافتتح الملك الجمع فقال: "قبل أن ندخل في صلب الموضوع، أود أن يخبرني كل واحد منكم عن الفعل أو القول الذي يغضبه حتى نتجنب جميعا الوقوع في المحذور ونصل إلى الهدف المنشود؛ وهو الإجماع. وسأبدأ بنفسي. إن أقصى ما يغضبني ويثير حفيظتي تأسيا بأخي الحاج هو اضطهاد القوي للضعيف واعتداؤه عليه. فقال النمر: أما أنا فإن أقصى ما يغضبني هو النظر الدائم المتفحص إلي. وقال الفيل: إن أقصى ما يغضبني هو إثارة الغبار لأنه يسد منخرَيَّ الضيقين أصلا، فتنحبس أنفاسي فأموت. وقال الثعبان: وأنا لا يغضبني شيء مثل الشجار والفتنة؛ فأنا - كما تعلمون- أمشي على بطني، وأي شيء من ذلك قد يتسبب في دهسي ووفاتي! وقال الدب: أنا لا يغضبني ويثيرني لحد زوال العقل شيء مما ذكرتم مثل ما يثيرني أن تهب علي رائحة الشواء ولا أجده! فقال النمر ممتعضا من قولة الدب: جئنا هنا لنفكر بعقولنا فيما يحقق إجماع الغابة.. لا لنفكر بأمعائنا! فمن أدرى هذا السيد بأن هذا الشواء من رزقه أصلا، وأنه حلال عليه أو حرام؟ وكأنه لم يسمع في حياته قول جدنا الأعلى:

ولقد أبيت على الطوى وأظله ** حتى أنال به كريم المأكل!

       تَعَجَّبَ الدب من قول النمر! إذ كيف - في دينه- يستطيع أحد أن يتحدث عن الحلال والحرام، وعن الرزق وكريم المأكل وينشد الشعر وهو يتنسم رائحة الشواء! وقال في نفسه: لماذا لا يأكل هذا المخلوق شعر جده ويتركنا نأكل المشوي؟! وطفق يزلقه (على لغة ابن قتيبة) بعينيه الغائرتين، ويتعجب من قوته الفائقة، وقده القويم، وثوبه الموشى المختلف عن ثياب الجميع، وأدبه وثقافته وورعه عن المشوي!

       تعامى النمر برهة حفاظا على سكينة المجلس وأملا في ارعواء الدب المعلق لبه بالشواء عن النظر إليه بتفحص دقيق! ولما لم يفعل وثب إليه فلطمه لطمة أطارته إلى قعر حفرة الشواء فاختلط حريقه بحريق اللحم دون أن ينال منه شيئا على قربه! غضب الأسد غضبا شديدا من افتراس القوي للضعيف، وانتهاك حرمة بلاطه، فانقض على النمر فصعقه بضربة قوية أفقدته التوازن، لكن سرعانما استعاد النمر رشده وجمع ما أوتي من قوة وخفة وهجم على الأسد، فاشتد القتال بينهما وحمي الوطيس وثار النقع، فاختنق الفيل وهاج وماج، وأخذ يقفز جيئة وذهابا ويصيح، فدهس الثعبان فمات، واقتحم النار فتطايرت شهبها في أرجاء الغابة فاحترقت عن آخرها! 

(أصل هذه الحكاية من التراث الإفريقي)