مرافعة أمام الغرفة الجزائية الجنائية لدى محكمة استئناف نواكشوط (4)  

 

الأستاذ محمدٌ ولد إشدو

 المحور الثاني: في الدعوى والبينات عليها، والانقلاب الناعم على نظام الأغلبية الشرعي!

       وسيتألف هذا المحور من جزأين هما: في الدعوى والبينات عليها؛ والانقلاب الناعم على نظام الأغلبية الشرعي.

1. في الدعوى والبينات عليها.

سيدي الرئيس،

السادة أعضاء المحكمة الموقرة،

يقول الله عز وجل في محكم كتابه: {يا أيها الذين آمنوا إن ‌جاءكم ‌فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}.

ويقول أيضا: {قل‌ هاتوا ‌برهانكم إن كنتم صادقين}.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي ...»

وعلى ذلك أجمعت شرائع السماء والأرض، لأن الأصل البراءة! والبراءة لا تنتهك إلا بمحقق!

وفي ذلك تقول المادة 13 من الدستور الموريتاني: "يعتبر كل شخص بريئا حتى تثبت إدانته من قبل هيئة قضائية شرعية". وقد تَبَنّى المشرع الموريتاني نفسه هذا المبدأ الدستوري في المادة التمهيدية من ق.إ.ج. فقال: "كل شخص تم اتهامه أو متابعته يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته قانونا بقرار حائز على قوة الشيء المقضي به، بناء على محاكمة عادلة تتوفر فيها كل الضمانات القانونية. لا يعتد بالاعتراف المنتزع تحت التعذيب أو العنف أو الإكراه، والشك يفسر لصالح المتهم". فهل هاتان المادتان موجودتان حيث ذكرت؟ أم إني أدعي ما لا وجود له؟ وإذا كانتا موجودتين فلماذا نختلف؟

   وهنا أفتح قوسا لأوكد أن ما زعمه بعض الأساتذة أمام محكمتكم الموقرة يوم 25/02/025 - حين أعيته البينة- من أن قانون مكافحة الفساد يلغي "قرينةَ البراءة" و"تفسيرَ الشك لصالح المتهم" و"يجعل عبء البينة على كاهل المتهم" إنما هو ضرب من الشعوذة والاستخفاف بعقول القضاة! إذ كيف يمكن لقانون في أسفل سلم الترتيب أن يلغي نصا دستوريا ومبدأ قانونيا؟! خاصة إذا كان المشرع قد تبناهما في ديباجة قانون المرافعات الجنائية؟ وأغلق القوس!

وإن ما ذهب إليه - بحقٍّ- فضيلة الدكتور محمد محمود ولد محمد صالح في اليوم الموالي هو الحق! فعبء البينة يقع دائما وأبدا على المدعي!

 

فالدعوى إذن قول، والبينة فعل يثبُت به – أو ينتفي- القول، وقد وثق بعض العارفين جدلية الدعوى والبينة في بيتين جميلين، فقال:

"القول دعوى. وفعل المرء بينة ** ولا سماع لدعوى دون بينة
وكم دعاوى على الإنسان هينة **تطَلَّبَت بينات غيرَ هينة".

لذا فالبينة هي مربط الفرس، وبيت القصيد في ساحات القضاء! وهي على المدعي كما نصت عليه أصول الشرع والقوانين الوضعية والدستور وقانون الإجراءات الجنائية، وكما نص عليه أيضا ابن عاصم في الفروع بقوله:

"والمدعي مطالَبٌ بالبينه        وحالـة العمـوم فيـه بينه".

وفي أوراق هذا الملف (عشرون ألف 20.000 صفحة) التي بين أيديكم، والتي يمتاح من محاضر شرطتها الادعاءان بعض أدلتهم الواهية.. تتهم النيابة العامة الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز – الذي لا يحق لها اتهامه- بارتكاب عشر جرائم خطيرة هي:

* تبديد ممتلكات الدولة العقارية والنقدية.

* الحصول على مزايا مادية غير مستحقة من مجموعة عمومية.

* التدخل في أعمال تجارية تنافي الصفة الوظيفية عن طريق أخذ وتلقي فوائد من عقود ومزادات.

* منح امتيازات غير مبررة في مجال الصفقات العمومية.

* استغلال النفوذ.

* إساءة استغلال الوظيفة.

* الإثراء غير المشروع. (أو الثراء غير المشروع كما يسميه بعض عمدائنا ونقبائنا).

* إخفاء العائدات الإجرامية.

* إعاقة سير العدالة.

* غسل الأموال.

لكن.. وبعد انصرام نحو خمس سنوات من البحث والتمحيص والتحقيق والتدقيق ما تزال بيناتهم على هذه التهم تراوح مكانها: إذ لا اعتراف من المتهم ظلما بما نسب إليه، ولا حجةٌ كتابيةٌ عليه، ولا شهود، ولا حتى قرائن! فلا مفتشية الدولة اتهمت الرئيس محمد ولد عبد العزيز باختلاس المال العام ووجهت إليه إنذارا بإرجاع المختلَس، ولا محكمة الحسابات اتهمته - أو اتهمت عهده- بسوء التسيير؛ بل إنها كانت - وكان البرلمان- يجيزان حسابات حكومته كل سنة ويبرّئان ساحتها؛ ولا يوجد قطاع عمومي أو خصوصي أو مؤسسة وطنية أو دولية تدعي عليه شيئا! ولا "لجنة التحقيق البرلمانية" - على علاتها- كانت قد اتهمته أصلا، خلافا لما أشاعه المبطلون، وشهادة نائب رئيسها ومقررِها بين أيدينا. ويقول فيها: "إن اللجنة البرلمانية التي صادقت الجمعية الوطنية على تشكيلها هدفها ليس التحقيقَ في عشرية الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز؛ بل التحقيق في قطاعات محددة. إن الرئيس ليس المسؤول بشكل مباشر عن التسيير، وواضح من الدستور أنه لا يمكن أن يتابَع في تسيير أي مرفق من مرافق الدولة، سوى في حالة الخيانة العظمى.. إن الإعلام ركز على العشرية والنظام. والحقيقة أنه مجرد دور برلماني في الرقابة على عمل الحكومة، سواء كانت الحكومة الحالية أو الحكومة السابقة. وبالتالي الإعلام أخرج اللجنة من نسقها الحقيقي". ولا الوزراء والمسؤولون المشمولون في الملف - ظلما وعدوانا- اتهموه أو شهدوا عليه بسوء؛ خلافا لما ادعى وروج المبطلون أيضا في حملاتهم الدعائية المغرضة ضده! بل على العكس من ذلك، فقد شهدوا له بالحق والحقيقة! وها هي ذي شهاداتهم بين أيدينا (وقد تعرض لها زملائي الأعزاء بالتمحيص في مرافعاتهم القيمة) وبعضهم حضور في هذه القاعة مع الأسف الشديد! ولم يشهد عليه شاهد آخر بشيء!

بل كل ما لدى الاتهام بشقيه - رغم ما أثير من ضجيج وولولة وعويل- هو التقول الذي ورد في مقابلات النقيب والذي تبناه بحذافره - ودون رتوش- قرار الإحالة الأرعن، فقال في خمس حيثيات غريبة ما يلي:

"حيث إن استغلال عدة تصريحات صحفية علنية سابقة في مناسبات مختلفة للمتهم محمد ولد عبد العزيز ... أثبتت أن المتهم صرح في بعض التصريحات في بداية مأموريته الأولى أنه لا يملك المال، وفي تصريحات لاحقة عقب خروجه من السلطة صرح بأنه يملك ثروات كبيرة. (انتبهوا جيدا يا أولي الألباب: مصدر بينة الاتهام تصريحات صحفية علنية سابقة).

حيث أن هذه التصريحات العلنية في وسائل الإعلام تثبت ثراءه الكبير غير المشروع أثناء فترة حكمه؛ إذ كيف يحصل موظف عمومي يمنع عليه الدستور ممارسة أية وظائف أخرى على أموال طائلة باعترافه في تصريح صحفي علني، إن لم يكن ذلك من خلال ارتكاب وقائع يجرمها القانون. {إن يتبعون ‌إلا ‌الظن ‌وإن ‌الظن لا يغني من الحق شيئا}.

حيث إن المادة 16 من قانون مكافحة الفساد تنص على أن أي موظف عمومي لم يستطع تقديم تبرير للزيادة التي طرأت في ذمته المالية مقارنة بمداخيله المشروعة، يعتبر مرتكبا لجريمة الإثراء غير المشروع، وهو ما يعرف قانونا بالإثبات العكسي؛ أي إن عبء الإثبات في هذه الحالة، يرجع إلى المتهم، فهو من عليه إثبات مصدر شرعي لثروته الطائلة. (فهم سقيم متهافت لنص المادة حمّلها ما لا تحمل بسبب العجز عن وجود بينة والحرص على الإدانة بالباطل).

حيث أنه من كل ما سبق يثبت بالأدلة القطعية التي لا يتطرق إليها الشك، نسبة تهمة الإثراء غير المشروع للمتهم محمد ولد عبد العزيز، (فما ليس فيه دليل قطعي واحد تحول إلى أدلة قطعية لا يتطرق إليها الشك! وجاءت عبارة: "الأدلة القطعية التي لا يتطرق إليها الشك" كأقوى تعبير عن اللا وعي بمدى الشك المطلق فيما لا يتطرق إليه الشك!).

حيث إن ثبوت هذه التهمة تثبت به جميع التهم الموجهة للمتهم"!

       وهذا يعني بكل بساطة أنهم {إن يتبعون ‌إلا ‌الظن وإن هم إلا يخرصون}!

تصوروا معي جميعا فداحة هذا الخطب:

أن يتحدث نقيب المحامين ورئيس فريق ادعاء الدولة بفخر إلى الإعلام عامة، وقناة "الوطنية" خاصة بتاريخ 08/10/2020 عن دعوى خطيرة وباهظة ضد رئيس جمهورية سابق ونظامٍ حَكَمَ البلاد عشر سنوات متهما الجميع بالفساد فيقول: "الدولة الموريتانية تعتبر واستنتجت من عمل اللجنة البرلمانية أنها هي الضحية الحقيقية لكل الفساد الذي عم هذا البلد لمدة 10 سنوات وكانت نتائجه (قاطعه الصحفي لحسن ولد محمد الأمين قائلا: أنت حسب اطلاعك على الملف (يومها لا يوجد ملف حتى يطلع عليه) ما تقديرك لحجم الفساد في هذه المرحلة) ... فيجيبه: أعتقد أنه آلاف المليارات...آلاف المليارات على أسوأ تقدير أنه آلاف المليارات.. جميع القطاعات: شركة سنيم، شركة سوملك، الميناء، الأراضي مدرسة الشرطة الملعب الأولمبي المدارس.. ناهيك ضخم ضخم استنزاف في الحقيقة بمعنى الكلمة"! ... "هناك أموال كثيرة مهدورة ومخزنة في بنوك أجنبية وفي أماكن أجنبية"!

ثم يعجز أزيدُ من عشرة (10) قضاة، على مستوى الدرجة الأولى، وستون (60) محاميا عن وجود بينة واحدة على هذه الدعوى إلا هذه الشعوذة: "استغلال تصريحات صحفية علنية سابقة" و"أن المادة 16 من قانون الفساد تقلب عبء الإثبات على المتهم" وبها يثبت بالأدلة القطعية التي لا يتطرق إليها الشك نسبة تهمة الإثراء غير المشروع (ويسميه النقيب الثراء غير المشروع تارة والثراء الفاحش تارة أخرى) للمتهم محمد ولد عبد العزيز".. و"ثبوت هذه التهمة تثبت به جميع التهم الموجهة للمتهم"!

أوليست هذه قمةَ الإفلاس؟

وزيادة على ذلك، فهذه حيلة جديدة، وأسلوب مبتكر في الحيف والظلم، من شأنه إن استقر به العمل – ولن يستقر به أبدا - أن يكون سلاحا سياسيا في يد السلطة تستبيح به جميع الأثرياء الذين لا ترضى عنهم، فتتهم منهم من تشاء بما تشاء من التهم، ثم تضيف تهمة الإثراء غير المشروع وتثبتها دون بينة بنص المادة 16 وتقول ما قاله قاضي تحقيقها الذي لم يحقق في شيء: "حيث إن ثبوت هذه التهمة تثبت به جميع التهم الموجهة للمتهم"! وتُخْرِب بيته بالباطل "يم عينك صبحت كيفت عين النعجة"!

وسنكتفي في هذا المقام بملاحظات ختامية هي:

أولا: أن دعاوى الادعائين على الرئيس محمد ولد عبد العزيز أمام القضاء العادي هي دعاوى من النوع الذي لا يسمع لسببين جوهريين هما:

أ. أنها دعاوى ظنية؛ أي لا يجزم مدعوها بها، ولا يحددونها بمبلغ معتبر له صلة سببية بضرر محدد ثابت، وتتناقض أقوالهم وطلباتهم فيما بينهم فيها، كما تتناقض مع أقوال شهودهم الذين أدلوا بهم فشهدوا ضدهم، أو لم يشهدوا بشيء. ففي مرام المجتدي على الكفاف: "ومن اختلف قوله واضطرب مقاله سقطت دعواه وبينته، ومن تناقض كلامه لا حجة له". وهي أيضا تخالف العوائد؛ إذ يتبجح مدعوها بانها سابقة لا مثيل لها في بلادنا ولا في أفريقيا والعالم العربي. فهي كدعوى غصب أو سرقة على صالح. وهذا النوع من الدعاوى لا يسمع. يقول العلامة محمد مولود بن أحمد فال (آدَّ) في كفافه:

شرط الدعاوى جزمها بمعتبر    يلزَم مدعًى عليه لو أقر

ولم يُناقِض قوله أو شهدا        أقامهم بها أو العوائدا

ب. أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز يتمتع بحصانة وامتياز قضائي راسخين رسوخ المادة 93 من الدستور. ويبدو أن هذه المادة كانت قبل هذا الملف مجهولة لدى بعضنا، ومعروفة لدى بعض أوَّلوها تحت الطلب بما يخدم الانقلاب المزمع، فربطوها بأصلها في دستور الجمهورية الخامسة الفرنسية ناسين - أو متناسين- أننا قد خرجنا من التبعية لفرنسا منذ أمد بعيد! أما اليوم، وبعد خمس سنوات ونيّف من المناظرة والجدل، وبعد صدور قرار المجلس الدستوري ذي الرقم 009/2024 بتاريخ 5 دجمبر 2024 فقد أصبحت تلك المادة نصا دستوريا محكما لا شية فيه ولا شك في وجوده في متن الدستور الموريتاني، وهو وحده الذي يحكم الوضع القانوني والقضائي لأي رئيس جمهورية سابق ولاحق في النظام الرئاسي الموريتاني. إن المادة 93 من الدستور لم تلغَ، ولم تعدل، ولم تبدل. وبالتالي فإن القفز عليها وعلى قرار المجلس الدستوري المكرس لجبروتها، لا يشكل انتهاكا صارخا للدستور، وإعلانا للعصيان على سلطة المجلس الدستوري فحسب؛ بل هو هدم متعمد لمؤسسات الدولة الموريتانية، وعدوان على السلم والسكينة والنظام، وبغي وفساد في الأرض، وحرابة بالقضاء والقانون، يترتب عليها ما يترتب: ﴿إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا﴾...! و"ليس من اختصاص القضاء قطعا إلغاء الدستور" كما قال القاضي الأمريكي ماثيو بران الذي وصف دعوى الرئيس ترامب القضائية الهادفة إلى إلغاء نتائج الانتخابات في ولايته بأنها "حجج قانونية بلا أساس، واتهامات قائمة على تكهنات"!

في الحلقة القادمة:

ثانيا: أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز لا علاقة له بهذا الملف؛ وإنما أقحم فيه